Monthly Archives: May 2011
أتيتُ إليك
0بخفقةِ قلبي، ودمعةِ عيني، وحزن نفسي أتيتُ إليك.. وقفت ببابك أرتجي السماح منك.. أسألك العون لنبضٍ يتهجدُ حبًا بك.. لنفسٍ فرغت من آمال الدنيا الزائفة.. لعينٍ تطمع بالنظر إليك.. لكلمة شمخت بك، وسعت في الدنيا لهفى إليك.. لعمرٍ رحلَ منه الزَّهر متبتّلا في محراب العبودية لك.. واهبًا بقاياهُ البيضاء لخيرٍ يرنو إليه بسكب قطراتِه في ضياءِ الدَّرب الموصلةِ إليك.. اللهمَّ يامجيبَ المضطر إذا دعاه اقبلني مع عبادك الصالحين، واجعلني وأهلي وأحباءك من السعداء في الدارين..
آمين اللهمَّ آمين
بقلم
زاهية بنت البحر
بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)33
0
لم تستطع أم عادل تحمل رؤية دموع سراب فوق خديها، فأمسكت بيدها ومشت بها إلى غرفتها لمتابعة عملها في كشف المستور داخل جوف الصندوق الخشبي.
تنهدت سراب بألم امتزجت به مشاعر الحزن والضيق معا، وها هي من جديد تعود لورطتها مع الصندوق التي ظنت بأنها قد تحررت من صيده بمغادرة إيوانه، لكنها تأكدت الآن يقينا بأن خيوط شباك حماتها من النايلون الممتاز الذي لا تستطيع أضخم الأسماك قطعها مهما كانت قوية الأسنان.
قررت سراب التحلي بالصبر في تحمل ما تبقى من وقت في غرفة حماتها، قليل من التعب ثم ينتهي كل شيء، فلا هي تضررت جسدا ولا نفسا، ولاهي جرحت مشاعر حماتها التي اصطفتها دون الجميع لشيء لا تعرف ماهيته لتطلعها عليه.
هذه المرة دخلت معها الغرفة بابتسامة عذبة المُحيَّا، مسحت بها عن وجهها آثار الحزن والدموع التي سفحتها قبل قليل تأثرا بحديث عَبَرَ سماء صفائهما ملبدَا الأجواء ببعض غيوم رمادية انقشعت بشيء من الدمع.
قد يكون التعاطف مع الآخرين عن سماحة نفس المتعاطف ورضاه، وما قطرة رحيق التي تنزفها زهرة إلا لتطهير الذات من حزن يلم بها وجعًا لفقد ما جمعته بكدها، ولكن لا بأس مادام القلب تعود صنع الرحيق، والله يعوضها خيرًا منه.
يا لهذه الحياة بكل ما فيها من خير وشر، فرح وحزن، فالعمر فيها لحظة لكنها لا تصفو إلا قليلا، وعند صفائها تتفجر براكين سعادة لا تهدأ إلا بخمود الفرح بنفخة حزن صاعقة تطفئ توهج الذات وتقص جناح التحليق.
في الغرفة أمام معقل ذكرياتها التاريخي العريق، استعادت درة حيويتها ونشاطها الذي وئدِ بحضور وجيهة، فتابعت البحث عن شيء ما، ما لبثت بعد دقيقة من العمل أو أقل أن علت وجهها ابتسامة مضيئة حطت فوق وجهها المتغضن بريقَ سعادة عارمة، فانفرجت أساريرها غبطة وحبورا وهي تحمل صرة بيضاء صغيرة- بين يديها المجعدتي الجلد، المعرورقتين، المنمشتين – مالت للصفرة بتقادم الزمن عليها.. مشت بها باتجاه السرير وهي تتبختر وكأنها تسمع من بعيد صوت زفة فتكاد ترقص طربا.
دهشت سراب عندما رأت حماتها قد رقت، وشفت حتى كادت تطير مرفرفة في سماء الغرفة.. لابد أن ماتحمله بين يديها هو سر غالٍ عليها فهي لم ترها بهذه الحال من قبل.. تتجه به نحو السرير.. تضعه برفق وكأنه طفل صغير ولد للتو بعد مخاضٍ عسير.. تنظر إلى سراب.. تدعوها للاقتراب منها لترى كنزها الغالي الذي بخلت به على الجميع.. تتقدم منها خطوات.. تقترب أكثر.. تبدأ درة بفك الرباط الذي يحيط بالصرة.. طبقة.. ثنتان.. ثلاث.. مازالت الدهشة تحتل وجه سراب وحماتها في تقدم مستمر نحو الطبقات الأعمق..
ثبتت درة عينيها في عيني سراب وبريق جميل يلمع بين جفونها بدأ يتشكل دمعا دريا وهي تهمس بصوت رقيق:
– كل تفاصيل الحدث الجميل تظل متقدة في الذاكرة مهما طالت قامة الوقت واتسعت مساحته.. ربما تهرب لحظة خجولة من حضن العمر، فتختبئ خلف عيون الذاكرة بإحساس طفلة بريئة المشاعر، تنتظر رفة رمش تعيدها إلى داخل الإطار، فتبدو أكثر وضوحا عندما تتبختر في طريق العودة.. هي كذلك فرحة اللقاء ياسراب بابتسام العمر من جديد.. لحظة سماع زغرودة في بيت أم، كانت تنظر فرح أولادها لحظة إثر لحظة..
بقلم
زاهية بنت البحر
بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)32
0أمسكت وجيهة بيدي أمها بهدوء كما تكلمت به، ودعتهما لعدم الخوف فليس في الأمر الذي جاءت من أجله ما يستوجب كل ما بدا منهما من أجل عادل الذي لم تقابله اليوم.
جلست النسوة الثلاث في غرفة المعيشة وعلامات الاضطراب تنسحب عن وجهي سراب وحماتها كانسحاب الجيوش من معركة، بينما راحت وجيهة تقص عليهما ما حدث معها بعد ذهاب والدتها من بيتها.
– كنت مؤدبة جدا معها رغم أنها أمسكتني من وجهي بكلتا يديها وشدتني بقوة لاأدري من أين جاءت بها وعيناها تلمعان بشرر غريب.. شعرت بألم شديد في الفكين، ووجع مفاجئ في رأسي، كدت أصعق خوفا منها عندما رأيت وجها آخر يحتلُّ مكان وجهها البريء، حدث كل شيء خلال لحظات عندما كنت أسلم عليها، غادرت بيتها حزينة دون أن أنبس ببنت شفة احتراما لنفسي وللبيت الذي تربيت فيه ولزوجي الذي لا يقبل بما حدث.
سألتها درة:
– ولماذا ذهبتِ لزيارتها؟
– لتهنئتها بعودة ابنها سالما من سفرٍ كاد يودي بحياته.
– ربما بدر منك ما أزعجها ولم تنتبهي لذلك.
– أقسم بالله لم أفعل شيئًا يغضبها، قبل عدة أيام كنت في زيارتها وكانت لطيفة جدا معي رغم حزنها على غياب ابنها، واليوم تنقلب ضدي بشكل فظيع.
– لك الله ياابنتي وهو ينصفك إن كنت بريئة، عودي إلى بيتك والتزمي الصمت فهي والدة زوجك على أية حال.
– جرحت مشاعري ياأمي أمام من كان عندها في البيت.
– لا تحزني يا ابنتي سيشفي الله جرحك فهو يسمع ويرى ويعد للظالمين عذابا أليما.
عادت وجيهة إلى بيتها لكن السكينة لم تعد إلى نفسها بعد تهجم حماتها عليها بأسلوب فج لايصدر عن امرأة تتقي الله مهما كانت الظروف التي تحيط بها، فالكنة ليست كالإبنة في مثل هذه المواقف الحساسة، ولايحق للحماة تعدي الخط الأحمر وإهانة ابنة الناس عدا عن كونها تهين نفسها بما يصدر عنها من عمل لايليق بامرأة عاقلة.
نساء كثيرات يشعرن بالغيرة من زوجة الابن .. يكتمن كرههن لهن ردحا من الزمن وهن يتسلطن عليهن بأسلوب أو بآخر.. يقبلن ذلك للكنة ويأبينه للابنة، ولكن أيًا كان التسلط فهو صعب يحبس ناره في قلوب الأبرياء، وعندما تتراكم الأنات والأوجاع يحدث الانفجار الذي يحطم كل ماحوله، وقد تصل شظاياه إلى أماكن بعيدة عن موقع الحدث.
نظرت درة إلى سراب.. ابتسمت بلطف وعيناها تعبران الواقع إلى المجهول:
– أدعو الله أن يقدِّرَ وجيهة على نسيان إساءة حماتها إليها التي تكررت مرارا وألا تبقى نابضة في ذاكرتها كي لاتعذبها، فالذاكرة ياسراب هي نحن فيها تفاصيل حياتنا من خير وشر، رتَّبتها الأيام والسنون في فصول نقتطف منها الثمار صيفًا وشتًاء… ربيعًا وخريفًا، فما نفع إنسان بلا ذاكرة ؟! أظنه يكون في هذه الحال مريضًا بفقد الذاكرة، وهو بحاجة لعلاج نفسي وطبيبٍ حاذق ينقذه من بلائه المقيت.
نحن لا ننسى ياابنتي بل أحيانًا نتناسى لمتابعة الحياة، لأنه من المستحيل أن يعيش الإنسان بلا نبض قلب، والنبض عند الكثيرين يستمر بمطر الذاكرة، وآه ثم آه من ذاكرة ملؤها الألم.
تدفق الدمع من عيني سراب وهي تستمع لحماتها التي تجلت الحكمة في قولها، فهتفت مؤيدة ماتفوهت به أم عادل من درر ثمينة أغلى من الماس والياقوت:
– كلماتك جعلت دمعي ينفر من عيوني غزيرًا، أتصدقين ياامرأة عمي بلحظة خاطفة تحضرنا الذكريات الجميلة التي دفنتها الذاكرة في دفء الروح، تعودنا عندما نقرع بلطف باب الماضي، فتخرج إلينا من مخبئها باسمة باكية.. هي الحياة تمشي بنا كيفما شاء الله لنتعلم منها مايساعدنا على عبورها بسلام.
بقلم
زاهية بنت البحر
بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)31
2أم عادل العجوز الوقورة، السيدة الحكيمة.. التي تزن كلامها بميزان الذهب، رأتها سراب الآن خارج الإطار الذي عرفتها به سابقا، رأتها بروح شابة رغم تغضن وجهها الذي غزاه الزمن، فأحاله إلى ما يشبه صحراء قاحلة ملأتها الشقوق.
تأكدت اليوم أن السعادة الداخلية للإنسان تضفي عليه جمالا غريبا مضاءً بشباب لا يمتُّ بصلة من قريب أو بعيد لمقاييس الشباب الجسدية والنفسية، ولا يحبس نفسه بقيود الوقار والحكمة التي لاتلزمه في مثل هذه اللحظات الشفيفة، فينبت من ذات النفس حرا لا تحده حدود، وتعجز كل الأطرعن لمه في صفة معينة لأنه خارج الزمن الذي هو فيه.
سألت نفسها عن سر هذا التبدل اللحظي في كيان الإنسان، وكيف يحدث دون ترتيب مسبق، فلم تسعفها ثقافتها المحدودة بالوصول إلى جواب، لكن عندما نظرت إلى مرآة حماتها العتيقة رأت نفسها أيضا في وجه مغاير لما كان عليه عندما صافحته لحظة دخول الغرفة. وجه متعب، شاحب، تعلو نضارة شبابه ملامح كآبة لم تشأ أن تظهرها لحماتها، ولكنها تحدت إباءها وتربعت فوق ربيع عمرها الغض، وأم عادل مشغولة بتاريخ عمرها السجين في صندوق عتيق بين بقايا أقمشة بألوان باهتة منعتها عن أفواه العتِّ الجائعة بالنافتلين ومبشور الصابون، كم هي بخيلة هذه المرآة الكريمة!!.
تململت سراب ضيقا.. نهضت عن السرير النحاسي.. سمعت صوت تألم مفاصله كالذي ألفته في غرفة جدتها لأبيها التي كانت هي الأخرى لوقت قريب تحتفظ بمثله إلى أن أصابه العطب، فتنازلت مرغمة عن حقها بالاحتفاظ به مدى الحياة، فبيع بثمن بخس للحداد مالك الحربوش، وأُحضر لها عوضا عنه سرير خشبي جديد لم يعد يُسمح للصغيرات بالوقوق فوقه، والنط والعفرتة عليه كالسرير القديم.
مشت في الغرفة عدة خطوت في محاولة لتليين جسدها.. التفتت العجوز إليها.. سألتها عما بها.. أجابتها:
– أردت تحريك مفاصلي قليلا..
– خيرا تفعلين ريثما أحضر ما أريد من أسفل الصندوق.
شارفت الشمس على الغياب وعادل لم يأت بعد لينقذها من ماضي أمه وصندوقها العجيب. ضجت نفسها بالاحتجاج متظاهرة فوق قسمات وجهها البريء، فتكبحها بهراوات الخجل من حماتها التي شغلتها عما هي فيه من ضيق يقظة مفاجئة لماضٍ سبب لها أرقا وتعبا.
غبطة جميلة اجتاحت قلب سراب عندما سمعت الباب يُقرع، جاءها الفرج بعد حصار مرير، استأذنت حماتها لترى من الطارق راجية أن يكون عادل، ردت عليها أمه بقول أحبط تفاؤلها:
– لاتذهبي.. سأفتح أنا الباب، عادل معه مفتاح البيت.
أحست سراب لأول مرة بأنها في سجن حقيقي سجانه درة، فأحبت التمرد وكسر القيد، لحقت بها رغم أمر المنع لترى من القادم.
استدارت أم عادل بكلِّها نحو سراب، وطلبت منها إغلاق باب غرفتها قبل أن تفتح باب البيت، فقد سمعت صوت ابنتها وجيهة في الخارج، ومعها طفل صغير وهي لاتحب أن يدخل الصغار إلى غرفتها والصندوق مغلق فكيف بها إن كان ناطقا بما فيه؟.
– خير ياابنتي، ماالذي جاء بك الآن؟
– سأخبرك بكل شيء عندما ألتقط أنفاسي..
– ادخلي ياوجيهة يبدو أن زوجك قد..
– لا.. لا ياأمي.. لايتعلق الأمر بزوجي..
– تكلمي.. هل أصاب أخاك مكروه؟
ركضت سراب نحو وجيهة عندما سمعت سؤال حماتها عن عادل، وقد فقدت قدرتها على النطق والدموع تتدحرج من عينيها، وشفتاها ويداها ترتعشان.
لم تنتبه درة لما أصاب كنَّتها من خوف واضطراب، فأمسكت بوجيهة تهزها بعنف وتطلب منها أن تتكلم فعادل مازال خارج البيت وقد تأخر بالحضور كثيرًا.
بقلم
زاهية بنت البحر
بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)30
1ظلت سراب تقاوم رغبتها بالخروج من الغرفة- وحماتها منهمكة بما لايهمها أمره- وتدعو الله أن يرجع عادل الذي وقف مذهولا، مرتعشا أمام ما قدم له البحر دون سابق إنذار.
“أنا البحرُ فى أحشائهِ الُدرُّ كامنٌ.. فهل سَاءَلوا الغواصَ عن صدفاتي”
أما صدفاتك التي قذفتها اليوم لعادل دون غوص ولا سباحة وهو ساهٍ عن كنوزك العجيبة الغريبة، الغالية، المدهشة فقد كانت بالنسبة له قاصمة ظهر:
– لماذا تقسو عليَّ يابحر؟
دارت به الدنيا، كاد للحظة تسرَّع فيها قلبه أن يتوقف للأبد… خطف لونه.. أغمض عينيه بعد اتساع جعلهما جاحظتين، داراهما عن تلك التي مالت في السماء للغروب، فاكتست ثوبا برتقاليًا أضفى أثره فوق وجهه كاشفا لما حدث داخله من انهيار مخزٍ لمثله من الرجال.
بحارا كان أو صيادا فقوة زنديه يجب أن تطفو على جميع مواهبه، يشد بها حبلا، مرساة أو شباكا تمتلئ بثروة سمكية يقدمها له البحر ثمنا لكفاحه ونزِّ عرق العافية. ما بال زنديه الآن تورعا عن القوة مثقلين بهول المفاجأة؟
حمد الله في لحظة عبرت أفق تفكيره.. لم يره أحد في الجرم المشهود وهو ينحر تماسك نفسه على مذبح الخوف، يبحث فيها عن قشة في بحر أفكاره الهادرة تنقذه مما هو فيه من قلق سقط عليه بتلك المفاجأة الرهيبة بخلوةٍ تقصدها طلبا لشيء من الراحة، فوجد نفسه في جبٍّ عميق تهدر في جوفه أصوات ضجيج لا تشبه سواها مما عرفه من أصواتٍ وضجيج ولم يجد القشة.
أحس اختناقا.. حاول تسلق جدران الجبِّ المظلم.. فشلت المحاولة، أعاد الكرة.. ضاقت أنفاسه.. تذكر أمه عندما رفعته ذات يوم من البئر وهو صغير وقد خرج بالقطة الميتة التي أفسدت ماءه، كان متعبا آنذاك.. منظر قطته الغريقة في الماء ألهب صدره بالحزن لفراقها فقد تعهدها بالحماية منذ ولادتها، وبنى لها بيتا صغيرا في حوش المنزل، كانت تحبه ، تلحق به أينما ذهب، يناديها تأتي إليه ولو كانت في الحارة، جمعت بينهما صداقة حميمة دامت أشهرا، صعب عليه يومها تحمل منظرها فاغرة فمها.. جاحظة العينين، افتقدها ليومين، بحث عنها في كل مكان ، لم يجدها فدلته عليها رائحة التفسخ الخارجة من الجب، لم يعلم كيف سقطت فيه، وعندما وصل بها إلى فتحة البئر زغردت درة فرحا بنجاحه بإخراج الميتة من الماء.. سمعها تزغرد وحيطان البئر تردد الزغرودة بينما كان قلبه يبكي قطته المدللة..
– هذا فستان فرحي يا سراب، مازلت أحتفظ به .. قماشه أبيض بلون الياسمين، كلفنا مالا كثيرا، اشتراه لي عمك أبو عادل من بيروت مع باقي الشوفة(ثياب العروس) كان فستانا جميلا لم أرَ مثله أبدا، مازلت أحتفظ به حتى اليوم.. كنت أود أن ترتديه وجيهة ليلة عرسها لكنها رفضت رغم أنه يناسبها تماما، تبدلت الأذواق فما كان يعجبنا لم يعد يعجب الجيل الذي جاء بعدنا، هي سنة الحياة..
صمتُ سراب جعلها تنهي الحديث عن فستان عرسها الأبيض المطرز بذكريات فرحها، وأيام وليالي سعادتها الغابرة. تتابع البحث في الصندوق بينما أنهك التثاؤب سحاب وأذبل النعاس عينيها. هي متعبة الآن ولا تحب مط الوقت في أمرٍ يزيدها تعبا ولا يعلم مداه إلا الله، لكنها من أجل سعادة أم عادل الآنية التي أنستها وعكتها الصحية كانت تكابر بصبرٍ مرير.
بقلم
زاهية بنت البحر
بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)29
1عندما تقع النفس صيدا لخوف ما، أو تجد ذاتها في لحظة حذر، أو انتظار أمرٍ هام، نجدها تحسب الدقيقة ساعة، والساعة يوما واليوم ربما سنة أو عمرا، تحتلها هواجس ومخاوف قد يكون أغلبها أوهاما ليس لها شيء من الصحة، بعكسها تماما فسرعان ما تمر لحظات السعادة والسرور كلمح البصر، نبكي عليها تحسرا وندما بعد أن تلفظنا خارج زمانها، نتمنى لو أننا عشنا فيها أكثر.. نتمنى عودتها بما كانت عليه، أو أجمل، أو حتى لو أقل بكثير مما عرفناها، ولكن هيهات هيهات.
أم عادل رغم ما كانت تشكو من تعب وإرهاق، فقد نهضت إلى صندوقها القديم، تنبش بأنامل الشوق فيه صدرا دفن في أعماقه سرا لم تشأ أن تطلع عليه أحدا قبل اليوم حتى ابنتها الوحيدة وجيهة، ترى ما الذي جعلها تفعل هذا، ولماذا اليوم وهي متعبة، ولسراب دون غيرها ؟
هناك في أعماقِ النفسِ البشريةِ مناطقُ مغلقةٌ لا تسمحُ لأحدٍ باختراقِها كذاك الصندوق المغلق رغما عنه.. هي سرُ الذاتِ مع الذاتِ.. تبخل ُبها على عيونِ الفضوليينَ وآذانِهم.. حسدِهم.. سخريتِهم وشفقتِهم أحيانًا.. تحتفظُ بها بدمعةٍ تارةً و بفرحةٍ تارةً أخرى.. هي ملكٌ خاصٌ محالٌ استعمارُهُ لا يطلعُ عليهِ سوى الله عالم الأسرارِ، وبعد موت صاحبه قد يفشى السر إن كان ماديا أو يموت مع صاحبه إن كان معنويا.
مازال السر دفين الصندوق ويداها تحفران باتجاهه، رأت سراب أشياء كثيرة تنهض من سباتها الطويل بألوان شتى، أبيض، أحمر، أخضر، أسود.. لم تولِ أم عادل شيئًا منها أدنى اهتمام بل كانت تضعها على الأرض بالقرب من الصندوق الناطق بما سكت عنه طويلا.
معظم ما أخرجته كان قديما جدا لم يعد يناسب الزمن الحاضر، لكنه رغم ذلك يظل غاليا عند صاحبته التي كنزته دهرا لأهميته عندها مهما كان صغيرا بالنسبة لغيرها، فهو عندها يساوي الدنيا وما فيها.
لم تعد أم عادل جسدا يتحرك بل أحست بها سراب وكأنها روحٌ تمشي على الأرض بهمة ونشاط، ما الذي دبَّ فيها فانتفضت من وعكتها قوية معافاة؟!!
تريد جوابا يذهب حيرتها، ابتسامة العجوز تزداد اتساعا وهمتها نشاطا، وسراب دهشة وحيرة وتساؤلا، وجبين درة يرشح عرقا حبات لؤلؤ تتدحرج فوق وجنتيها المجعدتين.. ترطب جفافهما المزمن بقطرات ندى الشوق ولكن الشوق لماذا؟
توقفت قليلا.. نظرت إلى سراب وبيدها شروال رجالي أسود، ضمته إلى صدرها بحنان، قبلته، التفتت إلى سراب بابتسامة عذبة وهي تقول: هذا شروال عمك أبو عادل، لم أره منذ سنين كثيرة… كان يلبسه عندما يدعى إلى فرح أو يكون في اجتماع أكابر البلد… تلبدت عيناها بالدموع الهاطلة فامتزجت بحبات العرق المالحة وهي تلوك حزنها بالحرمان.
اكتفت سراب بالدعاء لعمها بالرحمة وسكنى الجنان، وطلبت من حماتها أن ترتاح قليلا رأفة بنفسها بعد كثير جهد قامت به اليوم.
رفضت العجوز وتابعت عملها بإفراغ الصندوق من محتوياته التي لم تجد فيها سراب ما يثلج صدرها، فشعرت بالضيق وتمنت مغادرة الغرفة هروبا من رائحة الصندوق المزعجة التي راحت تزداد فوحا كلما أخرجت منه كنزا جديدا.
قبل قليل تمنت أن يحضر عادل ليكون معها إن وقعت حماتها فوق الأرض والآن تستعجل عودته إلى البيت لينقذها مما هي فيه قبل أن تسقط مغشيا عليها من تأثير رائحة الصندوق وما فيه من محتويات أكل الزمن عليها وشرب.
بقلم
زاهية بنت البحر
” الدوائر المتشابكة عند زاهية بنت البحر” للدكتور مسعود عبد الهادي
3
|
|||
طالعتنا زاهية بنت البحر بعدد من القصص الرائعة ، اعتبرتها نتاج دراية وخبرة لأديبة كبيرة ، وتمنيت لو طرحت العديد من أعمالها خلال مجلسنا الموقر ، ولعل حالة الانقطاع لهذا الانهمار الفني تبشر بميلاد أعمال جديدة ، لقد راقني من زاهية ذلك الاعتماد على الدوائر المتشابكة في صياغة أحداث القص ، فتبدو تداخلات النص تحمل في مضامينها صورة كبيرة تتماوج وتتقارب كالدوائر التي تتباعد عن مركز الحجر الملقى في الماء ، تتسع الدوائر وفيها من سمات المركز مايربط بين المنبع والمصب .
|
بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)28
0فتحت سراب لحماتها الباب.. رحبت بها.. رأتها متعبة والإرهاق بادٍ على وجهها بوضوح.. دخلت العجوز غرفتها بهدوء.. غيرت ملابسها وخرجت إلى المطبخ متثاقلة في مشيها لتحضير كأس من مغلي الكمون، فقد تعودت أن تخدم نفسها بنفسها دون أن تطلب من كنتها أو ابنتها مساعدتها، فهي امرأة تكره الكسل الذي تعتبره من مسببات العجز المبكر للشيوخ، ولا تحب أن تشغل غيرها بأمورها الشخصية مادامت قادرة على القيام بها إلا في حال لا تستطيع فيها تأدية ذلك.. لحقت بها سراب.. طلبت منها الخلود إلى الراحة وهي ستعد لها المغلي.. لم تمانع.. جلست على الديوان في غرفة المعيشة وعيناها مسبلتان، ويمناها فوق صدرها شمالا.. لم تستطع سراب إخفاء قلقها على حماتها التي خرجت بنشاط ملفت، وعادت بتعبٍ ملفت أيضا.
تناولت العجوز مغلي الكمون بعد أن وضعت فيه سراب بعض عصير الليمون، وأحضرت لها طشت فيه ماء ساخن لتضع فيه قدميها فربما يساعد ذلك على الإسراع بالتحسن.
قصَّت أم عادل على سراب كل ما مرَّ بها من أحداث منذ خروجها من البيت حتى عودتها إليه. ولم تنسَ أن تبدي قلقها على ابنتها وجيهة وما هي فيه من همٍّ وغمٍّ، وعلى واعدة المسكينة أيضا وما ينتظرها وولديها من تعب في الحياة من جراء تآمر العقربين جمحرة وأمها الظالمة، وانبطاح عوني المخزي لتسلط أمه وأخته فقد نفض يديه من أخلاق الرجولة، بينما أخبرتها بأنها تحس بارتياح بما يخص رزق بعد أن وعدتها رضوى خيرا.
أحست بشيء من التحسن بعد تناول المغلي، فحمدت الله وراحت تعدد لسراب أسماء أصحاب الخير ممن تنوي أن تطلب منهم مساعدة رزق.
نظرت درة في وجه سراب وكأنها تذكرت شيئًا هاما.. نهضت من مجلسها وقالت لها:
– تعالي معي إلى غرفتي..
لحقت بها دون أن تسألها عن السبب. فتحت العجوز باب الغرفة.. دخلتها وسراب.. اتجهت إلى خزانتها التي رافقتها طوال حياتها واحتفظت بالكثير من أسرارها الخاصة والعامة، فقد شهدت معها أجمل أيام عمرها منذ أن تزوجت وأنجبت وربت ولديها فعاشت معهما أرملة ويتيمين، وكم اختزنت في سر مرآتها من أحزان ودموع نزفتها في ليالي وحدتها بعد أن يغفو القمر وتأوي النجوم إلى أحضان الغياب. رأتها سراب من خلال المرآة كما لم ترها من قبل، وكأن متاعب السنين كلها قد تجسدت في وجهها ألما وحزنا، حشرجت في حلقها غصة، كتمتها بصعوبة، فاندفعت بسعال مفاجئ ..
فتحت درة خزانتها.. أخرجت منها مفتحا صغيرا.. أغلقت باب الخزانة بشيء من العنف دون قصد منها، فاهتزت المرآة بشدة ظنت سراب للوهلة الأولى بأنها ستسقط فوق الأرض لا محالة فسَّرتها ضمنيا بشيء من الاحتجاج على وضع حماتها من تعب، وتارة أخرى حزنا عليها..
طلبت درة من كنتها الجلوس فوق السرير كي لا تشعر بالإرهاق وهي في الأشهر الأخيرة من الحمل بينما راحت هي ترفع الفرش والمخدات والبسط عن الصندوق الكبير الذي يربض في الركن الشمالي من الغرفة.
حاولت سراب مساعدتها أكثر من مرة لكنها رفضت بشدة. فتحت الصندوق ففاحت منه رائحة الخَزْنِ القديمة ممزوجة برائحة صابون الغار والنفتلين المضاد للحشرات.
أحست سراب بشيء من الضيق سببته لها تلك الرائحة المزعجة، لكنها لم تدع حماتها تشعر بذلك، ودعت ربها أن تنهي بأسرع وقت ممكن تلك المهمة التي لاتدري عنها شيئا، ولا تعلم لماذا أتت بها إلى غرفتها في هذا اليوم بالذات وفتحت الصندوق الذي تجهل تماما ما تخبِّئ فيه، فلم يسبق لها أن فتحته أمامها من قبل..
كانت سراب تراقب حماتها عن كثب يخالجها إحساس بالخوف عليها، فقد علت وجهها صفرة واضحة مصحوبة بتسرع أنفاسها وهي تفرغ الصندوق مما فيه.
مرت لحظات ظنت فيها سراب أن حماتها قد تقع مغشيا عليها، وقد يحدث هذا فجأة وهي وحيدة في البيت، فدعت ربها أن يحضر عادل في أقرب وقت لينقذها مما هي فيه من قلق، بينما كانت درة تبتسم لأمر ما وهي تجدُّ بإفراغ الصندوق العجوز مثلها، ومثل مرآتها وسريرها النحاسي الذي لم تستبدله بآخر خشبي رغم محاولة عادل ذلك مرارا وتكرارا.
بقلم
زاهية بنت البحر
القمع المقلوب ( اخترعه الأرواديون للحصول على المياه العذبة من أعماق البحر)
2




