عندما وصل الرجلان إليه وشاهدا عن قرب ما رمته الأمواج فوق الصخور، هالهم المشهد وأربكهم لبعض وقت، لكن سرعان ما استأذن أحدهما بالذهاب لإحضار لوح خشبي كبير يساعدهم فيما هم مقدمون عليه.
وعندما عاد كان معه عدة رجال ولفيف من الأطفال الذين لا يفوِّتون حدثا في الجزيرة إلا ويكون كل واحد منهم شاهد عيان يدلي بمعلومات عما رآه بعضها صحيح، وكثير منها مما أوحى به خياله بتفسيرات شخصية خاصة جدا مع رشَّات من التوابل.
تعاون الرجال على إخراج الجثَّة المنتفخة التي حوصرت بين الصخور، وقد تسبب ارتطامها الشديد بتناثر أجزاء منها فوق المياه وعلى بعض الصخور القريبة منها.
لم يتعرَّف أحد على صاحبها شأن كلِّ جثَّة تحملها الأمواج عادة إلى شواطئ الجزيرة.
كانت لرجل أسود مجهول الهويَّة، مشوَّه الملامح، شبه عارٍ مقيَّد بحبال غرست في جسده الرخو المتآكل.
أخطر المخفر بشأنها، فأُمروا بدفنها في المقبرة قرب قبور الغرباء.
بعد صلاة المغرب قام المصلون بأداء صلاة الغائب عليها، ودعوا له بالرحمة والصبر لأهله.
في المساء جلس عادل حزينا متعبا أمام التلفاز يشاهد نشرة الأخبار من إحدى المحطَّات الكثيرة التي يلتقطها الهوائى بسهولة في الجزيرة بعد أن أرهقته أسئلة الأهالي عن الغريق، فقد ظن الكثيرون منهم بأنه ربما يكون أحد أقربائهم، ولكن لون الجثة كان ينقذه من طول الأسئلة.
وعندما دعته أمه وزوجته للعشاء اعتذر بلباقة بحجَّة عدم شعوره بالجوع ولفقدان الشَّهيَّة. وبإلحاح من أمه تناول بضع لقيمات من الديك المحشي الذي كان متشوقا لالتهامه منذ الصباح، لكن منظر الجثة جعل نفسه تأنف من تناول الطعام، والاكتفاء بكأس من الشاي عاد بعده لمتابعة النشرة الجويَّة في التلفزيون المحلي، وقد نوى ضمنيا ألا يذوق بعد اليوم لحم ديك محشي.
سألته والدته وقد جلست بالقرب منه:
– هل توصَّلوا لمعرفة صاحب الجثة؟
أجابها دون اكتراث:
– من هم؟
– رجال المخفر.
أجابها ببرود:
– إنَّهم بضعة رجال وهم ليسوا محقِّقين.
فسألته: ومن سيتولَّى التَّحقيق إذن؟
– لا تشغلي بالك يا أمّ عادل. هم يعرفون عملهم أكثر منا.
فسألته بحزن: وأهل الغريق ألن يسألوا عنه؟
– حتماً هم يسألون، ولكن لا أحد يعرف عنهم شيئاً.
– أهو من بلدنا؟
أجابها: لا يدل لونه على ذلك.. البحر واسع يا أمي والأمواج تقرب البعيد وتبعد القريب، والجثة متفسخة يعني مضى عليها في البحر وقت لا يمكننا تحديه.
اقتربت منه قليلاً وهمست في أذنه: هل في الأمر جريمة؟
أجابها بفتور: ربَّما، فالجثَّة وجدت مقيَّدة بالحبال.
سألته: ولِمَ قيَّدوه بالحبال؟
أجاب بضيق: لم أكن معهم عندما قيَّدوه.
فسألته: هل ألقي من إحدى السفن إلى البحر؟
أجابها وهو ينظر إلى زوجته: ربَّما يكون مات في السفينة فألقوه في البحر لأن البحر مقبرة أموات السفن كما تعرفين، أو قد يكون قُتِلَ فيها مقيَّداً ثمَّ ألقوه للتَّخلص من آثار الجريمة، ومثل هذه الحوادث تحصل في السفن التي تجوب البحار فليس البحارة ملائكة، أو ربَّما قتل فوق اليابسة والقي في البحر، فحملته الأمواج إلينا أو قد يكون انتحر و..
– وماذا ياعادل؟
– البحر يحبنا ياأمي، يحبنا كثيرا، ويقدم لنا هداياه المدهشة..
فقالت وهي تنظر إلى سراب التي كانت تصغي إليهما بكثير من التأثر والدموع تلمع في مقلتيها:
– من الأفضل أن تبقى صيَّاداً ولو شبعنا يوماً وجعنا سنة.
ظلت سراب قلقة حتى ساعة متأخرة من الليل بينما رقد عادل وأمه، واستسلما لنومٍ عميق.
أفكار شتى شغلت رأسها الصغيرة، حاولت الهرب منها، لكنها فشلت أمام أسئلة ملحة لم تجد لها جوابا، ترى كيف كانت حال صاحب الجثة قبل الموت وما هي الاسباب التي أودت به إلى هذا المصير؟ من قتله؟ هل راى قاتله؟ ماالحوار الذي دار بينهما قبل القتل وهل قيد قبله أم بعده؟ من أي بلد هو؟ هل له أم وزوجة وأولاد ينتظرون عودته سالما غانما كما كانت هي تنتظر عادل عندما كان مسافرا؟ هل كان سيجمع المال لشراء بيت لعائلته أم أنه كان سيجهز بيتا لعروس؟
أتعبتها الأسئلة التي ظلت تمطر حزنا وخوفا في نفسها القلقة.. نهضت من سريرها.. خرجت من غرفتها إلى غرفة المعيشة، فوجدت حماتها تحتسي مغلي اليانسون.