Mryam M.Y

Just another WordPress.com weblog

Monthly Archives: June 2011

أظافرُ الشَّكِّ

2

 تدخل صالحة غرفتها على عجل.. تغلق وراءها الباب بعنف لارتداء ملابس الخروج.. تفاجأ بها الخادمة وهي تنظف الغرفة.. تقف بارتباك شديد مطبقة كفيها وقد أصابتها رعشة.. تسألها سيدتها عما بها.. تصمت كلما كُرِّر السؤال..

تغضب صالحة.. تقترب منها ترى يديها مطبقتين.. تأمرها بفتحهما.. تأبى.. تنادي السيدة زوجها وأولادها لمعرفة ماالذي تخفيه الفتاة في يديها.. يحاول الجميع إرغامها على فتحهما.. يفشلون.. يوغر الشك صدر صالحة وهي ترى مفتاح خزانتها في الباب..

تقترب منها لاسترجاع ماخبأته فيهما.. تمسك بها.. تشد الأصابع بما أوتيت من قوة وهي تكيل لصاحبتها الشتائم وعينا الفتاة جاحظتان.. تدفع الأصابع بعيدا عن الكفين الفارغين وقد أدمتهما أظافرها الطويلة..

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الامل( رواية لزاهية بنت البحر)90

2

– ارجاع ياعادل..

مازالت تناديه وقد بح صوتها..أتراه سمع نداءها فقررالعودة؟ ظن الجميع أن رجاء درة فتت قلب ابنها، فرقَّ  مشفقا على عمرها الذي استلقت شمسه فوق سرير الغرب مكفنة بشال احتجابٍ طرَّزه الزمن بدم الشفق.

هرعوا إلى السقالة.. وقفوا بالقرب منها، وقلوبهم تقفز في صدورهم بنبض يدافع بعضه بعضا باضطراب مهيب..

توقَّف المركب للحظات غاب بعدها عن أعين المراقبين.. سقطت القلوب إلى الركب.. اتسعت العيون في الوجوه الواجفة.. وقف الجميع على رؤوس أصابع أقدامهم لاستجلاء الأمر.. شرقت عليَّة بريقها.. ظهر الزورق من جديد متوجِّهاً نحو الجزيرة، وهو يتأرجح فوق الأمواج.. تدنيه وتبعده، تعليه وتخفضه.. تغوص أصابع القلق في أعماق الصدور.. تلفظها الأرواح بعيدا عن متناول اللحظة خشية الغرق بدمع العيون..

تكسرت أجنحة الأمل على مرمى حجر من السقالة.. خوفان أحاطا بالنفوس.. خوف مما يحيق بالزورق، وآخر من الرجل الذي جاء من المخفر لمنع عادل من التورط باقتراف خوض غمار البحر..

أرعد الانتظار وأزبد.. هدَّدَ وأوعد، فتناثرت المهجُ شظايا لؤلؤية فوق الخدود.. الزورق يقترب من السقالة متحديا تجهم البحر والجو المحيط به..

أحست درة بضيق في التنفس قبل أن ترى عادل في الزورق.. رفعت يديها إلى عنقها تبعد عنه أصابع أشباح الرهبة التي تحاول خنقها بيدي خوفها..

امتلأت السقالة بالناس الذين أتوا دون دعوة مسبقة.. دفعتهم المروءة والفضول لمعرفة مايحدث أمامهم.. تهيَّأ القادرون منهم للمساعدة إن استدعى الأمر ذلك..

ارتفعت القلوب إلى الحناجر باقتراب الزورق، ولكن ما لبثت أن سقطت ثانية إلى الأقدام عندما توقّف قرب الرَّصيف.
تدافع الجميع لاستطلاع النَّبأ.. ماذا هناك ؟
ما الأمر؟!!!
لماذا عاد الزورق إلى الجزيرة ؟
هل أصابه عطلٌ ما؟
لا..لا ربما تكون سراب قد ولدت هاشم بتحريض الخوف من مجابهة البحر، أو ربما، وربما.. وعندما اقتربوا من الزورق جاء الجواب مؤلماً مبكياً حدَّ الوجع.. إنّها سراب هدأت للأبد.. نامت بسلام لم تعد تصرخ.. رأوها مسجاة بلا حراك، وعادل يحضن طفله الأمل  بين يديه ورأسه يغطي رأسها، وعند الظُّهر هدأت العاصفة كأنَّ شيئاً لم يكن.


تمت بعونه تعالى

الحقوق محفوظة

لا تنقل إلى منتديات أخرى دون ذكر اسم المؤلِّفة\ زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)89

2

أهكذا نقع في دائرة النهاية رغما عنا.. تُكسر جرار العمر  الغالي منها والرخيص.. تتناثر شظاياها فوق اللاشيء بظهر مغبر، وباطن معشق بالنورأو ربما بالسواد؟ أبهذه البساطة تغيب كل المشاعر والأحاسيس-  الهادئ منها والصاخب، الحسن منها والسيء-  بين أجفان أطبقت عليها للأبد؟

ماأهون العمرعلى لحظة النهاية، وما أشده وقعا على نفس المنتهي بها..

مازالت تناديه:

–          ارجاع يا عادل…

يسمعها الجميع رغم صخب الجو المحيط بهم إلا عادل الغائب عنها بجهاد مستميت في سبيل إنقاذ وردته التي بدأت تذبل أمام ناظريه بسرعة مذهلة، بينما كان بطنها يعلو ويهبط بسرعة أكثر مدعاة للذهول.. أي موسم حلَّ فيهم اليوم؟

اشتد المخاض حدة، واشتدت الريح زئيرا.. نظر إليها وهي تحرك ساقيها وخوف يتملكها، احمرار في وجهها.. تغمض عينيها.. انتابه رعب مفاجئ.. ماالذي يحدث؟ 

درة تناديه:

–          ارجاع  ياعادل..

تقترب لمى وشيماء الرابح منها.. تمسكان بها في محاولة لإعادتها إلى جانب الحائط بعيدا عن مياه المطر.. تبعدهما عنها بتمرد ولَّد فيها قوة مفاجئة.. تعود للنداء.. تكاد تسقط في البحر لاقترابها من حافة السقالة التي كسرتها الأمواج.. تمنت أن تكون نسرا بجناحين كبيرين بوسع البحر.. ترفرف بهما فوق الزورق.. تحمل من فيه إلى البر.. ولم لا تكون ما الذي يمنع.. داخلها يريد أن يستنسر فلا عجب من رغبتها الغريبة تلك.

يالنفس درة الممطرة جنونا في هذه اللحظات الكئيبة، النابعة حزنا في كل الفصول.. السامقة حلما في شتى الدروب..

إحساس غريب ينتابها.. يحفر في قلبها بأداة غريبة شيئا غريبا لم تجرب إحساسه من قبل.. تغمض عنه عينَي اهتمامها.. يلح عليها.. تتجاهله.. يحاصرها.. تصغي مكرهة لنبضه الغريب  في صدرها اللاهث..

–           ماالذي يحدث؟

–          مدَّت يديها باتجاه الزورق.. ستحضنه بزنابقها العشر.. زنابق عطر كانت، غيرتها السنون فبدت مجعدة.. خشنة.. تملؤها النمش.. لايهم ستظل عينا عادل تراها بيضاء.. ناعمة.. طرية.. ستقبض بها على الزورق وتعيده إليها بمن فيه.. ستحضنهما إلى الأبد.. فقط تريد أن تصل إليهما قبل أن…..

–           اقتربت أكثر من البحر.. تزحلقت قدمها.. مالت بجسمها نحو البحر في اللحظة التي أمسكت بها شيماء ولمى وأرغمتاها على الابتعاد عن حافة السقالة.. ربما لم تحس بما حدث، ولكنها مازالت تسأل بذهول يدعو للذهول:

–          ماالذي يحدث؟

تسيل دموع الخوف على وجهها كريمة بها مقلتاها، وقد بدأت الرؤية  فيهما تنوس رويدا رويدا بقطر الدمع الحزين..

تغير وجه سراب وكأنه أصبح وجه امرأة أخرى.. رآه عادل كما لم يره من قبل، كان محمرا يميل إلى الزرقة، وقد تضخم عنقها، واختنق الصوت في حنجرتها وهي تتخبط  بين يديه.. حار وثار.. أحس بضعفه الذي طعن رجولته بخنجر مسموم أمام امرأة لا حول لها ولا قوة.. ارفع رأسك يا عادل لن تطرق به أرضا خجلا من سراب.. لم  تعد الآن تحس بك ولا بأي شيء مما حولها.. هاهي قد هدأت واندلق منها طفلك هاشم مع أمواج حمراء..

ماالذي يحدث؟ ارتبك.. صراخ الوليد يعلو  وقد ازرق لونه.. تلمس جيبه.. ليقطع حبل السرة بما فيه.

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)88

0

استنفرت العقول والقلوب والأرواح .. وقفت على أهبة الاستعداد لتلقي  خبر مجهول قادم يكدح إليهم كدحا من وراء الغيب لا يدري أحد ما يحمل لهم من أنباء.. الكل يخفضون رؤوس كبريائهم خجلا من الرحمن.. ضعفاء يقرون بذلك في معمعة الحدث.. متمردون بما يحملونه من فكر، وما يتشدقون به من قول لا يغني ولا يسمن من جوع..

كل نفس فيهم تشعر بخوف تجهله لا تدري متى يحط رحاله في طريقها.. تحاول ستره في أعماقها بين صخور  هشة مختلَقة من أوهام بالية.. تسخو عليها برشات قوة  لتضعف عزمها في التحرر من قيد الستر الواهي.

بين الخوف والرجاء  تشرد العقول في عالم غريب .. كئيب تشم فيه رائحة الموت.. ترتعد فرائصها.. تهرب إلى أبعد من حدود البعد الأول .. إلى أين المفر  وقد فرَّت منها الاتجاهات تجنبا للقاء؟

الصدور تئن  بحذر لا يسمع  أنينها إلا جدران متآكلة يتردد بينها صدىً مفزعا.. خجلى بنفسها.. تكتم ضعفها عن آذان  سواها.. تتخارس بعقم القوة في مواجهة الحقيقة..

للبحرأمواج، وللصدور أمواج لايعلم هوية جواريها إلا الله.. أمام هياج البحر تثور أمواج الصدور.. ماذا تريد؟

 تضرب علية بيد اعتراض على صدرها المائج بالرهبة.. ترتد الضربة منه إلى شعورها المتشح بالقلق والأسى مخترقة ألف جدار وجدار.. سنوات عمرٍ مديد مرت كلمح البصر.. عجزت فيها عن قبض لحظة منها بكف إرادة  قوية مازلت تظن بها خيرا.. خافت على زوجها فحرمته رؤية ابنته.. سراب ابتعدت كثيرا رغم القرب..

هاهو الزورق يظهرعلى قمة جبل مائي قاتم اللون.. من أين أتى بالقتام ولماذا؟

 لم يغرق بمن فيه.. كم هي طويلة لحظة ظهوره.. آلاف الفكر تجتاح الرؤوس  محزنة ومفرحة.. كم يحتاج الزورق من الوقت لقطع المسافة بين الجزيرة والبر؟ ربع ساعة أو ربما ثلث ساعة في الأحوال العادية والطقس وديع، أما اليوم فللبحر مع الزورق شأن آخر..

 يقتلع الخوف أمن القلوب.. تنهب الحلكة شعاع الضوء.. يرتد النهار ليلا، والدفء بردًا، والأمل يأسا.. تجري أم عادل على غير هدى إلى السقالة لتكون أقرب إلى عادل.. تناديه بصوت عالٍ متهدج أغرقته دموع الشجن:

–          عادل.. عادل.. إرجاع يا إمي..

تخطف الريح النداء.. تهرب به بعيدا.. بعيدا عن أذني عادل.. والزورق يدور حول نفسه بين ارتفاعٍ وانخفاض.. الريح تعزف لحن الرهبة، والأمواج تراقص بجنون مركب مغامرة صُبغ جوفُه بلون الجوري الأحمر.

يجلس عادل قرب سراب ممسكا بيديها والدموع تتدفق فوق خديه.. صراخ سراب يمزق ستار الريح الغجرية.. يضع رأسه فوق صدرها تائها يشهق بالبكاء.. الشبان في غرفة القيادة في هلع شديد على المرأة ومن البحر.. الجنين في بطن أمه يتقلب بضيق بين أمواج المخاض المشتدة ضربا بالرحم.

تنظر إليه برجاء.. يطرق رأسه في الأرض عجزا.. تزداد صراخا.. تضرب بيديها صدره.. تغرس أسنانها في يده.. تنزف دما.. لا يحس ألما.. يحضنها بصدره.. تزداد صراخا..

تنادي درة:

–          ارجاع ياعادل..

وعادل لايسمع سوى أنين سراب وصراخا ينذر بكارثة..

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية بقلم زاهية بنت البحر)87

4

بلهفتيها حاضرا وماضيا كانت تراه قمرا يغطس في زرقة الماء داخل سياج رأسها الصغيرة.. يرفع رأسه الأصغر مفتوح العينين باسم الثغر.. يتعالى تصفيق رفاقه بحرارة.. ماذا يفعل  وحيدها ليستحق هذا التصفيق؟

  خافت عليه عندما علمت أنه يباري حمدان فيمن يتحمل البقاء تحت الماء أكثر.. همت بتأنيبه خوفا عليه من انقطاع  تنفسه في لحظة غدر..

أحست بسكاكين الخوف تحز على قلبها.. تقطعه إربا إربا.. امتشقت قامتها بهمة الشباب، ومضت إليه بحنان الأم.. رآها.. أقبل إليها عندما نادت عليه.. هددته بالعودة إلى البيت إن هو استمر بهذه اللعبة المؤذية.. استجاب لرغبتها كي لايمنع من السباحة في هذا اليوم الجميل.. عاد مع حمدان  لتسلق الصخور والقفز إلى البحر.. رجعت هي إلى النسوة يتسلين بمراقبة فلذاتهن وبما أحضرن معهن من طعام وفاكهة ومكسرات..

رأته فوق الصخرة واقفا..أشارت له بأن يقفز بهدوء.. أومأ لها بالموافقة.. قدمت لها أم أحمد كأسا من الشاي.. تناولته منها وهي تسمع صوت الماء عندما ارتطم به جسد عادل الذي  رمى  به حمدان في البحر دون أن تراه..

قربت الكأس من فمها.. ارتشفت منه قليلا وعيناها تبحثان عن عادل.. لم تجده بين الأولاد.. “أين ذهب؟”.. نهضت مسرعة باتجاه المكان الذي كان يقفز إليه .. لم تنتظر ريثما تتأكد من أنه تحت الماء.. ألقت بنفسها في  البحر حيث رأته غارقا دون حراك.. أخرجته إلى الشط لتفرغ ما امتلأت به معدته من مياه مالحة..

بكت يومها كثيرا.. دفنت دموعها بشعر رأسه، ونشَّفت عينيها بصدره.. منعته من السباحة شهرا كاملا إلى أن شفي جلد ظهره الذي  جمَّره البحر عندما ارتطم به بقوة.. يالتلك الذاكرة التي تسري بها إلى الوراء على جناح الخوف الممتدة ظلاله فوق بساط الأمس واليوم..

تعب صدرها من اللهاث.. لايهم.. تركض .. تركض  لتطاله يداها قبل الغرق الذي أنقذته منه صغيرا.. شعورها الرقيق عالم ليس له حدود.. نسرطليق يجوب  الفضاء بجناحي أنثى معذبة تسعدها ابتسامة في عيني وحيدها.. زادتها الذكرى خوفا، والغرق اكتئابا.. تسرع أكثر .. تحس بأن قدميها مقيدتان وهما تشقان الطريق في سباق مع الزمن..

الرجل أمامها على بعد أمتار مسرع هو الآخر .. حسيبة لجمها الخوف فآثرت الصمت وشَّدت بالمسير.. سبقتها درة قليلة فهي أقل منها وزنا.. ظهر البحر لهما.. قابلتهما وجوه غطاها القلق.. نظرت إلى السقالة.. لم ترَ عادل ولا سراب.. رأت الدموع تنساب من عيني علية ويداها ممتدتان نحو السماء، وفمها يلهج بالدعاء.. بينما انكمشت وجيهة على نفسها في مكان بعيد عن زوجها مرتعدة منه ومما ينتظر الجميع.. نظرت إلى البحر تتفقد جواريه المتخبطة فوق الأمواج.. رأت الزورق في الميناء قبل خروجه إلى عرض البحر وقد حمي وطيس المعركة بينهما.. كادت تهوي فوق الأرض فأمسكت بها لمى وشيماء دون أن تنبسا ببنت شفة..

اصطف الجميع قرب الحائط وعيونهم معلقة بالزورق..

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)86

0

كادت أفئدة النسوة والرجال تخلع من منابتها وهم يرون البحر يبتلع الزورق بوحشية مفزعة.. وقف الجميع بصمت رهيب يراقبون ما يجري أمامهم عن قرب تفصلهم عنهم عدة أمتار، لكنهم عاجزون عن الإتيان بأي عمل من شأنه نفع من هم الآن في قبضة قلب أسود عندما يشتد به الغضب لا يعرف الرحمة، فلاهم يستطيعون إعادتهم إلى الجزيرة، ولاهم لهم بمنقذين.

مُدِّدتْ سراب فوق أرض الزورق المغطى بسقف خشبي وقاها من مياه الأمطار ولسع الريح.. ابتعد الرجال عنها.. وقف عادل في غرفة القيادة يعطي أوامره للآلة الصماء التي يدير بها الزورق، مصرا على أن تكون مطيعة له طاعة عمياء رغم اعتراض البحر والريح.

 بين الشبان كان ثمة شاب يعمل في زوارق نقل الركاب مابين الجزيرة والبر.. يعرف كيف يوصل المركب بسلام إلى الميناء لكن ليس في كل الأحوال الجوية خاصة في مثل ماهم فيه اليوم.. التحدي مستحيل.. ثمنه باهظ جدا ربما كلف الحياة.. ناداه عادل ليأخذ مكانه في القيادة، وليبقى هو قرب زوجته التي كانت تصرخ بصوت يفتت الصخر، و البحر قد صمَّ آذانه، وخدَّر إحساسه، أو ربما كان يسمع فيزداد ثورة وهياجا كلما طعنه صراخها الحزين.

استبشرت درة خيرا عندما أسرع أحد رجال المخفر لمنع عادل من التهور بامتطاء صهوة الأمواج، فهذا ممنوع في مثل تلك الأجواء الخطرة.. ركضت المرأتان خلفه باتجاه البحر..

أم عادل تهرول في الأزقة الضيقة، وذاكرتها تسابق الريح بنبش خزائنها العتيقة المقفلة على ذخائر من قصاصات الماضي، ذيلت بتواقيع شتى بعضها كتب بمداد الدموع، وبعضها الآخر زركش بابتسامات دفنت في هوة الزمن السحيق، والبعض منها حفرت برسوم أمنيات عاشت تنتظر شروق شمسها ذات صباح، ولم يأتِ ذاك الصباح..

أحست بها تتدفق في رأسها بفوضى مزعجة كالريح والمطر والأمواج.. وقعت في قبضتها فريسة يصعب التقاطها من بين فكيها وعادل على وشك نزول البحر..

إحدى تلك القصاصات حملتها ريح غليان خوفها على فلذة كبدها.. طارت بها في أجواء نفس درة المرهقة تلاحقها عينا قلبها بقلق ينبعث من جهة البحر..

امتدت يدا مقلتيها.. التقطتا القصاصة بشغف.. أمسكتا بها.. فتحتاها بلهفة وهما تنفضان عنها غبارالماضي السميك.. رأته هناك في غرب الجزيرة طفلا جميلا.. بريء الوجه في الخامسة من العمر.. ركضت إليه كما تركض الآن إليه.. كان يسبح مع رفاقه الأطفال، والشمس تلوح أجسامهم بلونها الذي يعشقه الأرواديون.. لم يكن  يجيد السباحة بعد.. رأت نفسها تجلس مع أمهات الصغار قريبا من المكان الذي يسبحون فيه.. يراقبن أطفالهن المبتدئين بتعلم السباحة..

 كانوا يخرجون من البحر.. يصعدون إلى الصخور الملاصقة له.. يلقون بأنفسهم في أحضانه، وعيونهم تقطف من وجوه أمهاتهم ابتسامات سعادة. الجميع يضحكون كبارا وصغارا.. ليس هناك أجمل من أصواتهم وهم سعداء يرفرفون فوق سطح البحر كتلك النوارس التي تسبح  في الجهة المقابلة لهم ثم تحلق فوقهم بواق واق ماأجمالها واقا.

في البحر يتساوى الجميع.. الغني مع الفقير.. اليتيم مع من يعيش في رعاية والديه.. يلاعبون الأمواج ببراءة.. تمازحهم بلطف حينا وأحيانا بقسوة.. يتسابقون.. من سيقفز أولا  من أعلى الصخور الصغيرة.. كم قفزة سيسجل كل واحد منهم دون أن توقِّع  تلك الصماء فوق أجسادهم الغضة تواقيع أبدية بوشم يدفعون ثمنه من نزف دمائهم الطاهرة.. جميع أهل الجزيرة يحملون مثل هذه التواقيع التي تذكرهم بماضٍ آبق يرفض العودة إليهم مهما عظم الشوق إليه.

بقلم

زاهية بنت البحر

 

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)85

0

لم يلفت انتباه عادل أنه أصبح وليمة شهية للقلق يتلذذ في تعذيبه.. جعل من قلبه حلبة للصراع بين اليأس والأمل.. ترك له حرية الحركة  بين شرايينه دون رقابة تمنعه من خطوة قد يكون فيها دماره.. اختلت عنده الموازين.. رجحت كفة سراب عما سواها.. غاب عنه خطرُ ما هو مقبل عليه رغم التحذيرات الكثيرة.. قال له أحد الرجال:

–           لا تركب البحر فإني أرى ملك الموت في الزورق..

–           لم يعطِ للعقل رشفة انتباه لما سمع رغم احتياجه لها، فقد أغرقت أمواج نفسه الهائجة صوت الحكمة.. دفنته برعونة في أعماق اللهفة.. تكسرت أضلاع وعيه.. تخلص منها بثورة الخوف على حبيبته..

اختطف من أمه خيمة ساهري كما تختطف القطط الجائعة قطع اللحم، وأسرع بها إلى  الشبان الذين تعاطفوا معه شفقة بزوجته.. ابتعد عن درة.. لم  يهمه أمرها في شيء.. لم ينظر إلى الوراء فيفتقد عبير زنابق وجودها البيضاء.. غاب عنه كم كان يروي هذه الزنابق بطلِّ حبه المتدفق دفئا، وكم كان يخشى على مشاعرها من جرحٍ ولو بعطر وردة.

كل ما في نفسه وما حوله كان غائما.. أحس بالكره لكل شيء.. للبحر.. للريح.. للأرض.. للناس.. لنفسه.. أحس بأن الجميع يقفون ضده.. كلهم أعداء له.. يريدون سلبه سراب وقتل طفله.. لو كان يعلم بما سيحدث لها لطار بها إلى أرقى المستشفيات.. لباع البيت الذي يسكنه بكل مافيه.. ثيابه.. لاستدان مالا وعاش العمر في سداده.. أقر الآن بأن حماته كانت على حق ولكن  لو ..

–          لا وقت للو.. أنت الآن  في مهب الريح.. لا جناح يدفئك.. لا ثغر يبسم لك..لا وتر يعزف لحن أمل  قادم.. حناجرالريح تعوي.. تعوي، وأنت ترقص جريحا.. حزينا.. خائفا.. يائسا.. ليس الرقص للرجال.. افعل شيئا..

تحدى الخوف.. امتطى خيل الشجاعة.. جمع عظام انكساره.. أخاط بإبرة الصمود جراحه..

ترك للريح شعره تعبث به كيفما تشاء، وحجب عنها قلبه.. لم يعد يخشى تعسفها.. استباح القوة في خضم ضعفه.. خلع عنه سترته.. قلده الشبان تخلصا من ثقلها في حال الوقوع في البحر.. لف سراب بخيمة الساهري.. امتطى الزورق بصعوبة.. لم ترحمه الأمواج.. عاندته.. ما الذي أصابك أيها البحر.. كنت حبيبا فلِمَ انقلبت عدوا؟

لم يستطيعوا نقلها إلى الزورق.. حاولوا كثيرا والأمواج تقاومهم بتحدٍ عجيب.. خاف أن يضحي بها فتسقط في البحر.. حار في أمره..

كانت علية ووجيهة تقفان قرب الشبان.. حاولتا مساعدتهم، فطلب منهما أحدهم إخلاء المكان له.. أكثر من مرة ارتطم الزورق بحافة السقالة ارتطاما شديدا كاد يحطمه لولا الإطارات المطاطية التي على جانبيه. المطر والبحر والريح  في صراع غير متكافئ مع عادل وبين يديه امرأة تكابد مخاضا بنزف غزير.

أحست وجيهة بالقوة عندما رأت زوجها يركض باتجاه الزورق.. توسمت بقدومه خيرا.. وصل لاهثا.. غاضبا.. ابتعدت عن السقالة فقد أحست بالخوف منه عندما راح يصرخ بصوت عالٍ لمنع عادل من نقل سراب إلى الزورق.. لم يسمع عادل ما قاله صهره لانشغاله وأحد الشبان بتناول سراب ملفوفة بالخيمة في لحظة عابرة أثناء انحسار موجة طويلة عن السقالة  في الوقت الذي وصلت فيه لمى ورضوى وشيماء الرابح إلى البحر.

بقلم

زاهية بنت البحر

ندى الروح

0

أعجبُ من الكاذبِ كيفَ يصدِّقُ نفسَهُ
وأعجبُ من المخدوعِ كيفَ يلوم نفسَهُ
وأعجبُ من الشقيِّ كيفَ يصبرُ على شقوتِهِ
وأعجبُ من الناسِ كيفَ ينسَوْن إنسانيتَهم
وأعجبُ من المؤمن كيفَ يملُّ صبرَهُ
وأعجبُ من المخلوقِ كيفَ يعصي خالقهُ

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)84

0

دعتها خالتها لتناول القهوة الساخنة فالدلة مازالت فوق نار الكانون.. اعتذرت بلباقة وأسرعت إلى الحمام للتخلص من  ثيابها المبتلة بالماء المطري والبحري..

ارتدت ملابس نظيفة.. نظرت في المرآة.. حدقت في وجهها.. رأته مصفر اللون، تحيط بعينيها هالتان شوهتا نقاء بشرتها بلونهما الداكن.

تنهدت وهي تتذكر ما مر بها منذ مغادرتها البيت مع خالتها إلى تلك اللحظة التي هي فيها الآن.. توقفت قليلا عندما مرت في ذهنها صورتا شيماء ورضوى وهما تحتسيان القهوة.. تعمقت في الصورتين.. رأتهما ترتديان ملابس خالتها.. لابد أنهما استبدلتا ثيابهما المبتلة بثياب جافة عندما دخلتا  البيت.. لكن أمر رضوى غريب، فهي لم تذهب مع خالتها عندما اصطحبتها شيماء الرابح إلى البيت.. ظل أمر حضورها لغزا محيرا جعل أفكارها تضطرب كأمواج البحر الهائجة.

على مرمى أحداث اليوم ظلت لمى تتردد.. ترصد أوقاتها لحظة لحظة، وبين يدي تعبها أودعت انتباهها يقظا لا تغفو عيناه ومضة سهو، ولا أقل من ذلك حتى عن أصغر حدث شهدته أو أحست به.. تزيح بيد اليقظة عن ذاكرة وعيها أي ستار يحاول النسيان إسداله على ما أرادت استعادته بوضوح تام.. لا تدري  ما الذي يجعلها بهذا الاهتمام الكبير بما يحدث.

 أحست في داخلها بصوت ناقوس يقرع.. يقرع.. ارتعشت.. لا تريد أن تسمع شيئا.. تماسكت.. خرجت من غرفتها على عجل.. استقبلتها النسوة بالترحاب.. طلبتا منها أن تخبرهن بآخر مستجدات الوضع قرب البحر منذ مغادرتهن المكان.

تكلمت كثيرا.. تكلمن أكثر.. أثنت شيماء الرابح على فكرة إخبار زوج وجيهة بالأمر، فمن الأولى أن يكون موجودا في هذا الظرف المربك خاصة وأن والد سراب رجل مريض، ولا يستطيع القيام بأي شيء بل قد يقضي نحبه إن هو علم بأمر ابنته، فضغط الدم عنده مازال متارجحا.

لم تستطع لمى أن تخفي ابتسامة  صغيرة أشرقت فوق محياها عندما علمت بتزحلق رضوى في الطريق، وكيف صرخت بصوت عالٍ إثر وقوعها، فأسرعت شيماء الرابح لمعرفة مايجري قرب بيت أم أحمد، وما لبثت أن عادت برضوى وقد سحجت  الأرض ركبتها  اليمنى وكفيها عندما  تزحلقت بالطين الذي امتلأت به الطريق كما يحدث عادة عندما تمطر السماء.

تأبط قلبها يقينٌ بآت لا تزحزحه الهوج عن ثباته قيد أنملة.. أحست في داخلها بثورة غضب يلفها الحزن بشريط من الساتان الأسود.. مابال النسوة يطحن قلب الصبية برحى اليأس بما يقلن؟

كل ماسمعته فأل ينذر بكارثة قادمة ستحل غيومها بسماء الجزيرة تمطر دمعا من برد ونار..

استبقت الأحداث.. انسكبت فوق خديها دموع شكوى لله بأنين صامت.. سمعته بأذن قلبها يتوسل لمبدعه بالعفو.. بالرأفة بقلوب لوعها الزمن مرارا وتكرارا، فجسدُ الحرقة ملتهب يزيد الجراح نزفا والشغاف نواحا.

كيف لحزنها ان يغور في منبته وسقيا الخوف تغرقه اندلاقا؟ قررت العودة إلى البحر لبث الطمانينة في قلب درة، والدفء في يدي سراب.. ستقف سدا منيعا بوجه المآسي.. علها تورد في مسارب نفوسهم شعاعا بومض ارتياح..

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية بقلم زاهية بنت البحر)83

0

 لم يكن أمرا عاديا أن تمشي وحيدة في مثل هذا الوقت من الصباح الباكر. أحست لمى بالحرج وهي تقطع الطريق إلى بيت خالتها أم أحمد راجية الله أن تصل الدار قبل أن يراها أحد، فألسنة السوء لا ترحم بريئا.

 لابد أن تكون خالتها الآن مستغرقة في النوم بعد صلاة الفجر لأخذ قسطٍ من الراحة بعد تعب الفكر والجسد.

ظلت  مشغولة البال بما يحدث قرب البحر.. أحزنها حال سراب، والوضع الذي هي فيه تحت المطر وبين جوانح الريح، وكان قلقها جليا على العجوز درة، ولم يكن أقل شأنا  منه على ابنها عادل وعلى الجميع..

 أثار الشفقة في نفسها على عادل عدمُ قبول الرجال مساعدته في نقل زوجته إلى الزورق لتظل معلقة بين الحياة والموت.. ليتها  تستطيع تقديم المساعدة لهم مساهمة ًمنها في إخراجهم من مأزق صعب للغاية، ولكن للأسف عضلاتها ليست مفتولة..

 تركت وجيهة وعلية وامرأتين بالقرب من سراب عندما لحقت بأم عادل التي أرسلت بها إلى البيت رغما عنها، وكانت القابلة قد غادرت المكان قبل قليل معتذرة لعدم جدوى بقائها، فهي لن تستطيع تقديم أي شيء لسراب كما قالت لأم عادل، وبعد قليل لحقت بها رضوى..

لكل نفس أمنيات تود تحقيقها في حياتها، أمنيات لمى بدأت الآن تنفض عنها الغبار.. تشرئب برأسها عاليا.. تجدها تتمنى لو أنها أكملت دراستها وتخرجت طبيبة نسائية.. جراحة .. أو  حتى قابلة قانونية لا فرق عندها مادامت في النهاية تستطيع إنقاذ حياة امرأة في وضع كالذي تشهده اليوم.

انتابها شعور خفي  بالنقمة على والدها الذي لم يسمح لها بمتابعة الدارسة لأنها فتاة.. ترجته كثيرا.. أدخلت عمها للتوسط لها عنده، وصديقه الأعز والد أهداب صديقتها التي  أصبحت مدرسة، وقد تركت الجزيرة مع أهلها منذ عامين، فلم تستفد شيئا، فقضى برفضه الوساطة على أي فسحةِ أمل في تحقيق حلمها..

حاولت التملص من هذا الإحساس المفاجئ تجاه أعز الناس إليها.. لم تستطع  تقبله رغم حفره مساحة واسعة من الحزن في شغافها، كرهت اللحظة التي استيقظ بها حلمها الغافي منذ زمن تحت طبقة شفيفة من التناسي، فتمنت لأول مرة في حياتها لو أنها كانت رجلا رغم اعتزازها بأنوثتها.

قبل أن تدخل منزل خالتها خطر في بالها خاطرغاب عن بال عادل ومن معه، فارتدت على أعقابها مسرعة إلى بيت وجيهة أخت عادل.. ناسية ماحدثتها به نفسها قبل قليل بشأن خروجها وحيدة في الصباح.. قرعت الباب على عجل.. انتظرت ربما دقيقة أوأكثر.. فتح الباب زوج وجيهة.. فوجئ بالقادمة.. لم تنتظر صحوته من المفاجأة.. أخبرته بحياء واختصار بما  يواجه أهل زوجته، وطلبت منه الذهاب إليهم عسى أن  يفيدهم بشيء، فهم في أزمة تحتاج لوقوفه بجانبهم.

فتحت باب بيت خالتها بهدوء شديد خشية أن توقظها من النوم.. وقبل أن تلتقط أنفاسها وتشعر بالطمأنينة سمعت كلاما في غرفة الجلوس.. خفق قلبها بشدة.. إنهم نسوة.. من عند خالتها في هذه الساعة المبكرة؟ خافت أن يكون قد ألم بخالتها مكروه.. أسرعت باتجاه الغرفة وأذناها تحاولان معرفة صاحبات الصوت.. قرعت الباب قبل أن تفتحه.. نادت بصوت  منخفض خالتها.. سمعت صوتها تدعوها للدخول.. اطمأنت قليلا، وعندما فتحت الباب رأتها وشيماء، ورضوى  يحتسين القهوة والحيرة بادية على وجوههن.

بقلم

زاهية بنت البحر

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)82

3

عادل البلبل الحيران يصدح حزينا في روض حبه لسراب على أفنان المنى.. تسمعه الريح.. تخطف أنينه.. تذروه بطيش في مهبها حجبا عن الأفهام.. يحتد.. يثور.. يرفض الاعتراف بالعجز أمام جبروت البحر.. يكحل الأمل بمرود الصبر.. يسقيه بماء الروح الطاهر.. يأبى أن تغادر مليكته عرشها العالي الذي شيده لها في خمائل قلبه.. ظل فيه ناسك الحب الوفي، يكوثره كلما أوشكت أن تلمس تدفقه شائبة صفاء.

سيظل جبهة صامدة في وجه العجز مهما عصفت ريحه، يسكت هدير اليأس مهما غلت براكينه وتفجرت حارقة ورود وفراشات ربيعه المنتظر.. مازالت بين يديه تتنفس هواءه.. يراها بعينيه  تئن بصمت يذبحه دون بسملة، ولكن قلبها مازال ينبض رغم الوجع.. لا يستطيع أن يرى بيته فارغا من إشراقها في صباحاته شمسَ دفء.. طالعة في مساءاته بدر ضياء.

ما عساك يا درة تفعلين، ومن ستقنعين بالعودة إلى البيت؟ الموت أهون عليه مما تقولين.. لمي شباك رأيك واطرحيها في بركة ماء فارغة فقد عقد العزم، وأقنع الشبان بما يريد.

تركها والدموع تجري فوق وجنتيها ممتزجة بماء المطر ورذاذ الأمواج الصاخبة.. أخذ منها خيمة الساهري خطفا.. وجدها في تلك اللحظة كنزا لا يقدر بثمن.. فاته في زحمة انشغاله على محبوبته أن يلوح بهمسة شكر لحسيبة حتى ولو كانت بينه وبين نفسه..

عجنها القلق بكفي الخوف.. أوجعها العجن فكاد يرمي بها في هوة ضياع لن يستطيع أحد أن يخرجها منها لولا أن امتدت إليها يد حسيبة تهدئ من روعها بما يشبه المواساة، لكن خافقها ظل يطرق في صدرها بشدة  كطرق بمطرقة حداد يريد قص قطعة من فولاذ لانبض قلب من دم ولحم. تعب  قلبها.. ملَّ الألم.. فقد القدرة على الاستمرار في  مضغ  الهم.. يريد الوصول إلى بر أمان ينسى فيه صدره المرهق وكل من فيه، وما حوله..

نظرت في وجهه وقد ابتعد عنها.. رأته يحاكي لون الشمس التي بدأت بالشروق.. خافت.. ارتجفت.. كبَّرت.. أتشرق شمس وتغرب شموس؟!!

  لم يعد أمامها وقت لعمل شيء ينقذ وحيدها ومن معه من كارثة محققة الوقوع إن هم ركبوا الزورق وأبحر بهم في غياهب المجهول..

عاشت عمرها تتحدى اليأس.. والآن هي في أكبر محنة تقع بين فكيها.. كادت تصرخ.. تولول وتنوح.. تمسك حسيبة بيدها.. تهمس في أذنها بكلمات.. لم تستوعب ما قالته لها.. تطلب منها إعادته على مسمعها.. مازالت خارج تغطية الوعي.. تعيد حسيبة كلامها الهامس للمرة الثالثة.. ثمة علامة ارتياح تشرق بمعية الشمس فوق وجنتي درة..

تغادر المكان على عجل وخلفها حسيبة.. تركض.. تركض حسيبة.. يعلو صوت خطواتهما.. يقارع عواء  الريح.. الأزقة خالية إلا منهما.. بقي عليهما  القليل لتصلا إلى ما هما إليه مسرعتان..

ابتعدتا عن البحر وعن رشق أمواجه لكنهما وقعتا فريستين لانصباب الماء فوق رأسيهما من مزاريب الأسطح التي تملأ الحارات الضيقة.. لم تحسا بما ظل ينهال عليهما لانشغال رأسيهما بالأهم.

وصلتا إلى هدفهما على عجل.. لم تتوقفا لالتقاط أنفاسهما.. اتجهتا نحو باب يعرفه الجميع.. مخفر الجزيرة.

بقلم

زاهية بنت البحر

 

بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)81

2

فتحت فوهة قلبها.. ضغطت فوق زناد البوح.. انطلقت الكلمات رشا ودراكا، فأصابت قلب مستمعتها بموجع.. أفضت درة لحسيبة بكل شيء.. كانت صادقة بما قالته.. تكلمت بوضوح عما كانت عليه من أحلام وردية رعتها عمرا مديدا.. سقتها برحيق  شبابها.. قلمت أشواك اليأس من حولها بمقرض الصبر.. ظللتها برموش حنانها.. فربت وارتفعت سوقها عاليا.. اخضرت.. أثمرت، وظلت تنتظر قطافها بلهفة الشوق إلى ما قبل دقائق معدودة.. أتراها كانت تخادع نفسها بأن تلد سراب بسلام، فيأتي هاشم إلى الدنيا.. يحمل اسم جده.

 أشياء كثيرة كانت تبرق في مخيلتها متشحة بالأمل.. والآن تقهقرت جحافل الخداع.. انكشفت الرؤية  جلية.. ضاعت أحلامها الوردية، بل تبلورت أمامها الحقيقة واضحة كتلك الشمس التي بدأت تتهيَّأ لمغادرة خدرها الشرقي  بصحبة عرائس الشفق بهالة سحر فاتنة.. لا مجال بعد الآن للخداع.. البحر هائج، والوصول إلى البر الثاني مستحيل.. سراب لن تلد والعودة بها إلى البيت هو أفضل ما يقدمه لها الجميع.. هي طلبت منها ذلك.. قالت ” إنني أموت”.

لولا إيمانها لظنت بأن للبحر وللريح تأثيرًا غريبًا على  نفسها بما هي فيه من اضطراب.. لم تكن يوما كما هي الآن.. بدأت تشك في نفسها بأمور كثيرة.. تريد مساعدة من أحد يقول لها الحقيقة التي تتخيلها كل لحظة بشكل مختلف عما سبقه.. سألت حسيبة أن ترشدها فهي متعبة جسديا ونفسيًا حدَّ الوهن.. تخشى اتخاذ قرارٍ ما قد يعود عليها بالندم .

شجعتها حسيبة على العودة بسراب إلى البيت وأخبرتها برأي زوجها.. ابتسمت درة بسرها واطمأنت إلى صواب فكرتها.. بقي أمامها  إقناع عادل بما ارتأت.. ترى هل سيقتنع برأي والدته وحسيبة وزوجها وقد خالف قبل قليل رأي رجال لايستهين برأيهم إلا مكابر أو مغامرأو أبله؟ وإن اقتنع عادل بقول درة، فهل ستقبل عليَّة بقرار قتل ابنتها؟

عندما تفتح الروح على منافي الوعي نوافذ نور، تجتاز بعين البصيرة عالم الظلمة بكل ما فيه من تخبط بوحل الحياة فكرا وعملا.. تتسلق على سلالم الحق إلى سدرة الرضا وهي ترى اغتيال اليأس بمدية الأمل بعد تشردٍ في أزقته المعتمة زمنا طويلا.. هناك  تنادم  النفس على بساطِ المحبة.. ترفرف حولهما فراشاتُ ربيع  دائم الابتسام بأزهى الألوان وأعطر الأزاهير، وأروع رفيف..

لابد من دموع آتية.. من حزن يجرح القلوب.. يفتت الصدر حسرة وألما.. لن تحمل السلم بالعرض فالطريق ليست ملكا لها.. هي لكل العابرين.. زد يابحر جنونك فلكل شيء نهاية.. أيها المأمور ماأضعفك رغم هياجك المرعب..

أم هاشم يا وجه الصبح المشرق في قلوب أحبتك، لنعد إلى البيت والنبض يلهج  بالدعاء لك بالخلاص.. سراب يا فلذة لم تحملها رحمي.. سأظل أدعو لك بالسلامة.. زينب توفيت في المستشفى رغم التفاف الأطباء حولها.. نزفت.. نزفت ومع النزف خرجت الروح، وأخرجت زين من بطن أمها بقيصرية قبل تمام الأشهر السبعة.

 ذكرتها حسيبة بقصة زينب لتجدد تذكرها بأن الأعمار بيد الله.. ستلدين هنا في الجزيرة ياسراب دون أطباء، سيأتي هاشم بإذن الرحمن، فلله معجزات لا يعلم سرها إلا هو.

كانت غارقة في بحر أفكارها المتلاطم الأمواج، ويداها تمسكان بخيمة الساهري التي أعطتها لها حسيبة ومضت عندما رأت عادل يأتي نحوها مسرعا.

بقلم

زاهية بنت البحر