فتحت فوهة قلبها.. ضغطت فوق زناد البوح.. انطلقت الكلمات رشا ودراكا، فأصابت قلب مستمعتها بموجع.. أفضت درة لحسيبة بكل شيء.. كانت صادقة بما قالته.. تكلمت بوضوح عما كانت عليه من أحلام وردية رعتها عمرا مديدا.. سقتها برحيق شبابها.. قلمت أشواك اليأس من حولها بمقرض الصبر.. ظللتها برموش حنانها.. فربت وارتفعت سوقها عاليا.. اخضرت.. أثمرت، وظلت تنتظر قطافها بلهفة الشوق إلى ما قبل دقائق معدودة.. أتراها كانت تخادع نفسها بأن تلد سراب بسلام، فيأتي هاشم إلى الدنيا.. يحمل اسم جده.
أشياء كثيرة كانت تبرق في مخيلتها متشحة بالأمل.. والآن تقهقرت جحافل الخداع.. انكشفت الرؤية جلية.. ضاعت أحلامها الوردية، بل تبلورت أمامها الحقيقة واضحة كتلك الشمس التي بدأت تتهيَّأ لمغادرة خدرها الشرقي بصحبة عرائس الشفق بهالة سحر فاتنة.. لا مجال بعد الآن للخداع.. البحر هائج، والوصول إلى البر الثاني مستحيل.. سراب لن تلد والعودة بها إلى البيت هو أفضل ما يقدمه لها الجميع.. هي طلبت منها ذلك.. قالت ” إنني أموت”.
لولا إيمانها لظنت بأن للبحر وللريح تأثيرًا غريبًا على نفسها بما هي فيه من اضطراب.. لم تكن يوما كما هي الآن.. بدأت تشك في نفسها بأمور كثيرة.. تريد مساعدة من أحد يقول لها الحقيقة التي تتخيلها كل لحظة بشكل مختلف عما سبقه.. سألت حسيبة أن ترشدها فهي متعبة جسديا ونفسيًا حدَّ الوهن.. تخشى اتخاذ قرارٍ ما قد يعود عليها بالندم .
شجعتها حسيبة على العودة بسراب إلى البيت وأخبرتها برأي زوجها.. ابتسمت درة بسرها واطمأنت إلى صواب فكرتها.. بقي أمامها إقناع عادل بما ارتأت.. ترى هل سيقتنع برأي والدته وحسيبة وزوجها وقد خالف قبل قليل رأي رجال لايستهين برأيهم إلا مكابر أو مغامرأو أبله؟ وإن اقتنع عادل بقول درة، فهل ستقبل عليَّة بقرار قتل ابنتها؟
عندما تفتح الروح على منافي الوعي نوافذ نور، تجتاز بعين البصيرة عالم الظلمة بكل ما فيه من تخبط بوحل الحياة فكرا وعملا.. تتسلق على سلالم الحق إلى سدرة الرضا وهي ترى اغتيال اليأس بمدية الأمل بعد تشردٍ في أزقته المعتمة زمنا طويلا.. هناك تنادم النفس على بساطِ المحبة.. ترفرف حولهما فراشاتُ ربيع دائم الابتسام بأزهى الألوان وأعطر الأزاهير، وأروع رفيف..
لابد من دموع آتية.. من حزن يجرح القلوب.. يفتت الصدر حسرة وألما.. لن تحمل السلم بالعرض فالطريق ليست ملكا لها.. هي لكل العابرين.. زد يابحر جنونك فلكل شيء نهاية.. أيها المأمور ماأضعفك رغم هياجك المرعب..
أم هاشم يا وجه الصبح المشرق في قلوب أحبتك، لنعد إلى البيت والنبض يلهج بالدعاء لك بالخلاص.. سراب يا فلذة لم تحملها رحمي.. سأظل أدعو لك بالسلامة.. زينب توفيت في المستشفى رغم التفاف الأطباء حولها.. نزفت.. نزفت ومع النزف خرجت الروح، وأخرجت زين من بطن أمها بقيصرية قبل تمام الأشهر السبعة.
ذكرتها حسيبة بقصة زينب لتجدد تذكرها بأن الأعمار بيد الله.. ستلدين هنا في الجزيرة ياسراب دون أطباء، سيأتي هاشم بإذن الرحمن، فلله معجزات لا يعلم سرها إلا هو.
كانت غارقة في بحر أفكارها المتلاطم الأمواج، ويداها تمسكان بخيمة الساهري التي أعطتها لها حسيبة ومضت عندما رأت عادل يأتي نحوها مسرعا.
بقلم
زاهية بنت البحر