دعتها خالتها لتناول القهوة الساخنة فالدلة مازالت فوق نار الكانون.. اعتذرت بلباقة وأسرعت إلى الحمام للتخلص من ثيابها المبتلة بالماء المطري والبحري..
ارتدت ملابس نظيفة.. نظرت في المرآة.. حدقت في وجهها.. رأته مصفر اللون، تحيط بعينيها هالتان شوهتا نقاء بشرتها بلونهما الداكن.
تنهدت وهي تتذكر ما مر بها منذ مغادرتها البيت مع خالتها إلى تلك اللحظة التي هي فيها الآن.. توقفت قليلا عندما مرت في ذهنها صورتا شيماء ورضوى وهما تحتسيان القهوة.. تعمقت في الصورتين.. رأتهما ترتديان ملابس خالتها.. لابد أنهما استبدلتا ثيابهما المبتلة بثياب جافة عندما دخلتا البيت.. لكن أمر رضوى غريب، فهي لم تذهب مع خالتها عندما اصطحبتها شيماء الرابح إلى البيت.. ظل أمر حضورها لغزا محيرا جعل أفكارها تضطرب كأمواج البحر الهائجة.
على مرمى أحداث اليوم ظلت لمى تتردد.. ترصد أوقاتها لحظة لحظة، وبين يدي تعبها أودعت انتباهها يقظا لا تغفو عيناه ومضة سهو، ولا أقل من ذلك حتى عن أصغر حدث شهدته أو أحست به.. تزيح بيد اليقظة عن ذاكرة وعيها أي ستار يحاول النسيان إسداله على ما أرادت استعادته بوضوح تام.. لا تدري ما الذي يجعلها بهذا الاهتمام الكبير بما يحدث.
أحست في داخلها بصوت ناقوس يقرع.. يقرع.. ارتعشت.. لا تريد أن تسمع شيئا.. تماسكت.. خرجت من غرفتها على عجل.. استقبلتها النسوة بالترحاب.. طلبتا منها أن تخبرهن بآخر مستجدات الوضع قرب البحر منذ مغادرتهن المكان.
تكلمت كثيرا.. تكلمن أكثر.. أثنت شيماء الرابح على فكرة إخبار زوج وجيهة بالأمر، فمن الأولى أن يكون موجودا في هذا الظرف المربك خاصة وأن والد سراب رجل مريض، ولا يستطيع القيام بأي شيء بل قد يقضي نحبه إن هو علم بأمر ابنته، فضغط الدم عنده مازال متارجحا.
لم تستطع لمى أن تخفي ابتسامة صغيرة أشرقت فوق محياها عندما علمت بتزحلق رضوى في الطريق، وكيف صرخت بصوت عالٍ إثر وقوعها، فأسرعت شيماء الرابح لمعرفة مايجري قرب بيت أم أحمد، وما لبثت أن عادت برضوى وقد سحجت الأرض ركبتها اليمنى وكفيها عندما تزحلقت بالطين الذي امتلأت به الطريق كما يحدث عادة عندما تمطر السماء.
تأبط قلبها يقينٌ بآت لا تزحزحه الهوج عن ثباته قيد أنملة.. أحست في داخلها بثورة غضب يلفها الحزن بشريط من الساتان الأسود.. مابال النسوة يطحن قلب الصبية برحى اليأس بما يقلن؟
كل ماسمعته فأل ينذر بكارثة قادمة ستحل غيومها بسماء الجزيرة تمطر دمعا من برد ونار..
استبقت الأحداث.. انسكبت فوق خديها دموع شكوى لله بأنين صامت.. سمعته بأذن قلبها يتوسل لمبدعه بالعفو.. بالرأفة بقلوب لوعها الزمن مرارا وتكرارا، فجسدُ الحرقة ملتهب يزيد الجراح نزفا والشغاف نواحا.
كيف لحزنها ان يغور في منبته وسقيا الخوف تغرقه اندلاقا؟ قررت العودة إلى البحر لبث الطمانينة في قلب درة، والدفء في يدي سراب.. ستقف سدا منيعا بوجه المآسي.. علها تورد في مسارب نفوسهم شعاعا بومض ارتياح..
بقلم
زاهية بنت البحر