تحدَّر الدمع من عينيه غزيرا.. لم يمسحه بكم قميصه خجلا ممن قد يراه مصادفة في طريقه.. خالف الليلة تعاليم أمه كثيرا.. قالت له ذات يوم:
– الرجال لا يبكون..
لِمَ لا يبكون، أوليسوا بشرا من دم ولحم؟ أوليس في صدورهم قلوب إنسانية تحس.. تحزن، وتفرح، تحب وتكره؟ أم أنها قلوب فقدت هويتها الإنسانية، وانتسبت لعالم آخر لا يعرف شفقة ولا رحمة؟!! قال لها:
– الدمع رحمة ياأم يطفئ نارا تتقد بها القلوب .
– قد يصبح زيتا يؤجج النيران..
سراب حبيبته تستحق بحورا من الدموع، وجداول من العطر.. ليته يستطيع استعارة قلوب كل الناس للحظة واحدة يمزج أحاسيسهم بإحساسه المشتعل ليحسوا به.. ليتذوقوا معنى الألم على حبيب يموت أمامهم وهم مقيدون لا يستطيعون إنقاذه.. صدقت درة عندما كانت تقول له:
– ضع أصبعك في عينك.. ما يؤلمك يؤلم الناس..
لم يفهم كثيرا يومها هذا القول.. فهمه الآن وبعمق، ولكن من يتألم لأجله؟ أم فاضل منعت ابنها من مساعدته.. هي أم ومن حقها المحافظة على حياة ابنها مثله تماما، فهو يسعى للمحافظة على حياة سراب وابنه فلماذا يلومها؟ أيريدها أن تخرج إلى الشاطئ تودع فلذتها وهي ترسله إلى الموت؟ أتراها تكون عاقلة إن فعلت هذا، أم قاتلة؟
– لكنها سراب، وتستحق المخاطرة..
بالنسبة لك تستحق المخاطرة، أما بالنسبة لسواك فلا يستحق أمرها عندهم المخاطرة بحياتهم.
لا يريد أن يسمع من عقله هذا الكلام رغم اقتناعه به.. ركض في الطريق على غير هدى.. إلى أين تهرب من الحقيقة؟ يركض.. يركض، وعصا الريح تجلد وجهه وظهره فيئنّ باقي الجسد.
ظن أنه يسمع صوت وقع أقدامه فوق المياه التي تتدفق في الطريق باتجاه البحر، خطوات هادرة توقظ أذن الليل.. يزداد الصوت وضوحا وداخله قهرا.. توقف.. انتبه بكل حواسه الشارد منها والهائم في طرقات البحث عن حل لما هو فيه.. التفت إلى الوراء.. رآه يركض باتجاهه وهو يناديه..
صحا من ذهوله وهو يصافح فاضل بكلتا يديه.. ضمه إلى صدره، والدمع ينساب فوق خديه مع حبات المطر.
– أين ذهبت يارجل، لم أجدك هناك فلحقت بك.
– خذ كل مالي يا فاضل أجرا لزورقك.
– إنقاذ زوجتك هو أغلى من كل المال.
قبل قليل كاد اليأس يرحل به في متاهات القلق بأنفاس حرى تنزف من جرح الروح المضمخة بالحزن المرير.. حاول التبرؤ من اليأس فوجد نفسه يغرق في بحر تبرأت منه الشهامة واستعمرته الأنانية بأبشع صورها.. تحت المطر ركض مشرد الفكر تائه الخطوات.. سجين القتام، فامتدت نحوه يد العناية تنتشله من هياج النفس الغارقة في خضم الضياع.
بعد أن ظن بأن ظلامه أبدي دامس، وقد فات أوان الشروق وسيمضي عمره بسهاد وذبول، هاهي الشمس من جديد ترفع عن وجهها من وراء أفق ظنونه طرف خمارها على استحياء قبل وقت الشروق، فأي صباح سينعم به ويد الأمل تمتد نحوه بيد فاضل؟
بقلم
زاهية بنت البحر