لا شيء في الحياة يستحق الأسف عليه مهما كانت الخسارة فيه جسيمة، حتى الموت فلن يموت إلا من انتهى عمره حبيبا كان أو عدوا. فإن كان لا بد من أسف فليفكر كل منا بما ينتظره عندما يعود لخالقه، وليأسف على مافاته من خير، وعلى ما جناه من شرِّ، فقد أخبرنا الله بأن الموت حق؛ والبعث حق؛ والوقوف أمامه يوم الحساب حق؛ فهل نعمل بما يسعدنا يوم الحق بحق؟ أرجو ذلك.
نظر إلى ابنه نظرة حزن وأسف وهو يتذكر ماكان يقوله لوالده كالذي يسمعه من ابنه اليوم ، هزَّ رأسه بأسى ولسان حاله يلعن الشيطان الذي وسوس له ذات يوم فأغضب ربه بالإساءة لوالده.
“اتقوا الظلم فالظلم ظلمات يوم القيامة” ومن الظلم اتهام الآخرين بما ليس فيهم لقصور فهم أو لجهل بالحقيقة، فلا تلقوا بالتهم على الناس جزافا فتكونوا شاهد زور على أمر ليس فيه من الحق شيء” وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”
كم من فرحة لشخص ما؛ كانت سببا في حزنٍ وألم لآخرين ماكان ينقصه مثقال ذرة منها لو أنه قدم لهم قطرةً من سعادة بعمل لا يكلفه جهدا ولا مالا، ولكن صدق الله وهو المنزل على رسوله الكريم صلوات ربي وسلامه عليه” وأحضرت الأنفس الشح”.
لستَ ولن تكون الوحيد الذي تصدمه الحقيقة عندما يسقط القناعُ عن أقرب الناس له وهم يتوارون خلف أعذار واهية هروبا من تقديم مساعدة لك في ظروف صعبة مؤقتة تمرُ بها ؛ أعلم يقينا بأنكم لو تبادلتم فيها الأدوار لن تكون كَهُم وقد سقطت عن عورات نفوسهم أوراق التوت..
نظرت في وجهه وقد ابتعد عنها.. رأته يحاكي لون الشمس التي بدأت بالشروق.. خافت.. ارتجفت.. كبَّرت.. أتشرق شمس وتغرب شموس؟!!
لم يعد أمامها وقت لعمل شيء ينقذ وحيدها ومن معه من كارثة محققة الوقوع إن هم ركبوا الزورق وأبحر بهم في غياهب المجهول..
عاشت عمرها تتحدى اليأس.. والآن هي في أكبر محنة تقع بين فكيها.. كادت تصرخ.. تولول وتنوح.. تمسك حسيبة بيدها.. تهمس في أذنها بكلمات.. لم تستوعب ما قالته لها.. تطلب منها إعادته على مسمعها.. مازالت خارج تغطية الوعي.. تعيد حسيبة كلامها الهامس للمرة الثالثة.. ثمة علامة ارتياح تشرق بمعية الشمس فوق وجنتي درة..
تغادر المكان على عجل وخلفها حسيبة.. تركض.. تركض حسيبة.. يعلو صوت خطواتهما.. يقارع عواء الريح.. الأزقة خالية إلا منهما.. بقي عليهما القليل لتصلا إلى ما هما إليه مسرعتان..
ابتعدتا عن البحر وعن رشق أمواجه لكنهما وقعتا فريستين لانصباب الماء فوق رأسيهما من مزاريب الأسطح التي تملأ الحارات الضيقة.. لم تحسا بما ظل ينهال عليهما لانشغال رأسيهما بالأهم.
وصلتا إلى هدفهما على عجل.. لم تتوقفا لالتقاط أنفاسهما.. اتجهتا نحو باب يعرفه الجميع.. مخفر الجزيرة.