أمسكت وجيهة بيدي أمها بهدوء كما تكلمت به، ودعتهما لعدم الخوف فليس في الأمر الذي جاءت من أجله ما يستوجب كل ما بدا منهما من أجل عادل الذي لم تقابله اليوم.
جلست النسوة الثلاث في غرفة المعيشة وعلامات الاضطراب تنسحب عن وجهي سراب وحماتها كانسحاب الجيوش من معركة، بينما راحت وجيهة تقص عليهما ما حدث معها بعد ذهاب والدتها من بيتها.
– كنت مؤدبة جدا معها رغم أنها أمسكتني من وجهي بكلتا يديها وشدتني بقوة لاأدري من أين جاءت بها وعيناها تلمعان بشرر غريب.. شعرت بألم شديد في الفكين، ووجع مفاجئ في رأسي، كدت أصعق خوفا منها عندما رأيت وجها آخر يحتلُّ مكان وجهها البريء، حدث كل شيء خلال لحظات عندما كنت أسلم عليها، غادرت بيتها حزينة دون أن أنبس ببنت شفة احتراما لنفسي وللبيت الذي تربيت فيه ولزوجي الذي لا يقبل بما حدث.
سألتها درة:
– ولماذا ذهبتِ لزيارتها؟
– لتهنئتها بعودة ابنها سالما من سفرٍ كاد يودي بحياته.
– ربما بدر منك ما أزعجها ولم تنتبهي لذلك.
– أقسم بالله لم أفعل شيئًا يغضبها، قبل عدة أيام كنت في زيارتها وكانت لطيفة جدا معي رغم حزنها على غياب ابنها، واليوم تنقلب ضدي بشكل فظيع.
– لك الله ياابنتي وهو ينصفك إن كنت بريئة، عودي إلى بيتك والتزمي الصمت فهي والدة زوجك على أية حال.
– جرحت مشاعري ياأمي أمام من كان عندها في البيت.
– لا تحزني يا ابنتي سيشفي الله جرحك فهو يسمع ويرى ويعد للظالمين عذابا أليما.
عادت وجيهة إلى بيتها لكن السكينة لم تعد إلى نفسها بعد تهجم حماتها عليها بأسلوب فج لايصدر عن امرأة تتقي الله مهما كانت الظروف التي تحيط بها، فالكنة ليست كالإبنة في مثل هذه المواقف الحساسة، ولايحق للحماة تعدي الخط الأحمر وإهانة ابنة الناس عدا عن كونها تهين نفسها بما يصدر عنها من عمل لايليق بامرأة عاقلة.
نساء كثيرات يشعرن بالغيرة من زوجة الابن .. يكتمن كرههن لهن ردحا من الزمن وهن يتسلطن عليهن بأسلوب أو بآخر.. يقبلن ذلك للكنة ويأبينه للابنة، ولكن أيًا كان التسلط فهو صعب يحبس ناره في قلوب الأبرياء، وعندما تتراكم الأناتوالأوجاع يحدث الانفجار الذي يحطم كل ماحوله، وقد تصل شظاياه إلى أماكن بعيدة عنموقع الحدث.
نظرت درة إلى سراب.. ابتسمت بلطف وعيناها تعبران الواقع إلى المجهول:
– أدعو الله أن يقدِّرَ وجيهة على نسيان إساءة حماتها إليها التي تكررت مرارا وألا تبقى نابضة في ذاكرتها كي لاتعذبها، فالذاكرة ياسراب هي نحن فيها تفاصيل حياتنا من خير وشر، رتَّبتها الأيام والسنون في فصول نقتطف منهاالثمار صيفًا وشتًاء… ربيعًا وخريفًا، فما نفع إنسان بلا ذاكرة ؟! أظنه يكون في هذهالحال مريضًا بفقد الذاكرة، وهو بحاجة لعلاج نفسي وطبيبٍ حاذق ينقذه من بلائه المقيت.
نحن لا ننسى ياابنتي بل أحيانًا نتناسى لمتابعة الحياة، لأنه من المستحيل أن يعيش الإنسانبلا نبض قلب، والنبض عند الكثيرين يستمر بمطر الذاكرة، وآه ثم آه من ذاكرة ملؤها الألم.
تدفق الدمع من عيني سراب وهي تستمع لحماتها التي تجلت الحكمة في قولها، فهتفت مؤيدة ماتفوهت به أم عادل من درر ثمينة أغلى من الماس والياقوت:
– كلماتك جعلت دمعي ينفر من عيوني غزيرًا، أتصدقين ياامرأة عمي بلحظة خاطفة تحضرنا الذكريات الجميلةالتيدفنتها الذاكرة في دفء الروح،تعودنا عندما نقرع بلطف باب الماضي، فتخرج إلينا من مخبئها باسمة باكية.. هي الحياة تمشي بنا كيفما شاءالله لنتعلم منها مايساعدنا على عبورها بسلام.
عندما يصفعك من لم تؤذيهِ بكلمة سوءٍ أو بظلم ما، انظري إلى السماء بصمت، فهناك من يراكِ ويعلم عنك كلَّ شيء، استعيني به على ما أنت فيه من بلاء، واشكريه أن جزاك بمن أساء\ت إليك حسناتٍ كثيرة، وحطَّ عنك سيِّئات ربما أكثر..
أم عادل العجوز الوقورة، السيدة الحكيمة.. التي تزن كلامها بميزان الذهب، رأتها سراب الآن خارج الإطار الذي عرفتها به سابقا، رأتها بروح شابة رغم تغضن وجهها الذي غزاه الزمن، فأحاله إلى ما يشبه صحراء قاحلة ملأتها الشقوق.
تأكدت اليوم أن السعادة الداخلية للإنسان تضفي عليه جمالا غريبا مضاءً بشباب لا يمتُّ بصلة من قريب أو بعيد لمقاييس الشباب الجسدية والنفسية، ولا يحبس نفسه بقيود الوقار والحكمة التي لاتلزمه في مثل هذه اللحظات الشفيفة، فينبت من ذات النفس حرا لا تحده حدود، وتعجز كل الأطرعن لمه في صفة معينة لأنه خارج الزمن الذي هو فيه.
سألت نفسها عن سر هذا التبدل اللحظي في كيان الإنسان، وكيف يحدث دون ترتيب مسبق، فلم تسعفها ثقافتها المحدودة بالوصول إلى جواب، لكن عندما نظرت إلى مرآة حماتها العتيقة رأت نفسها أيضا في وجه مغاير لما كان عليه عندما صافحته لحظة دخول الغرفة. وجه متعب، شاحب، تعلو نضارة شبابه ملامح كآبة لم تشأ أن تظهرها لحماتها، ولكنها تحدت إباءها وتربعت فوق ربيع عمرها الغض، وأم عادل مشغولة بتاريخ عمرها السجين في صندوق عتيق بين بقايا أقمشة بألوان باهتة منعتها عن أفواه العتِّ الجائعة بالنافتلين ومبشور الصابون، كم هي بخيلة هذه المرآة الكريمة!!.
تململت سراب ضيقا.. نهضت عن السرير النحاسي.. سمعت صوت تألم مفاصله كالذي ألفته في غرفة جدتها لأبيها التي كانت هي الأخرى لوقت قريب تحتفظ بمثله إلى أن أصابه العطب، فتنازلت مرغمة عن حقها بالاحتفاظ به مدى الحياة، فبيع بثمن بخس للحداد مالك الحربوش، وأُحضر لها عوضا عنه سرير خشبي جديد لم يعد يُسمح للصغيرات بالوقوق فوقه، والنط والعفرتة عليه كالسرير القديم.
مشت في الغرفة عدة خطوت في محاولة لتليين جسدها.. التفتت العجوز إليها.. سألتها عما بها.. أجابتها:
– أردت تحريك مفاصلي قليلا..
– خيرا تفعلين ريثما أحضر ما أريد من أسفل الصندوق.
شارفت الشمس على الغياب وعادل لم يأت بعد لينقذها من ماضي أمه وصندوقها العجيب. ضجت نفسها بالاحتجاج متظاهرة فوق قسمات وجهها البريء، فتكبحها بهراوات الخجل من حماتها التي شغلتها عما هي فيه من ضيق يقظة مفاجئة لماضٍ سبب لها أرقا وتعبا.
غبطة جميلة اجتاحت قلب سراب عندما سمعت الباب يُقرع، جاءها الفرج بعد حصار مرير، استأذنت حماتها لترى من الطارق راجية أن يكون عادل، ردت عليها أمه بقول أحبط تفاؤلها:
– لاتذهبي.. سأفتح أنا الباب، عادل معه مفتاح البيت.
أحست سراب لأول مرة بأنها في سجن حقيقي سجانه درة، فأحبت التمرد وكسر القيد، لحقت بها رغم أمر المنع لترى من القادم.
استدارت أم عادل بكلِّها نحو سراب، وطلبت منها إغلاق باب غرفتها قبل أن تفتح باب البيت، فقد سمعت صوت ابنتها وجيهة في الخارج، ومعها طفل صغير وهي لاتحب أن يدخل الصغار إلى غرفتها والصندوق مغلق فكيف بها إن كان ناطقا بما فيه؟.
– خير ياابنتي، ماالذي جاء بك الآن؟
– سأخبرك بكل شيء عندما ألتقط أنفاسي..
– ادخلي ياوجيهة يبدو أن زوجك قد..
– لا.. لا ياأمي.. لايتعلق الأمر بزوجي..
– تكلمي.. هل أصاب أخاك مكروه؟
ركضت سراب نحو وجيهة عندما سمعت سؤال حماتها عن عادل، وقد فقدت قدرتها على النطق والدموع تتدحرج من عينيها، وشفتاها ويداها ترتعشان.
لم تنتبه درة لما أصاب كنَّتها من خوف واضطراب، فأمسكت بوجيهة تهزها بعنف وتطلب منها أن تتكلم فعادل مازال خارج البيت وقد تأخر بالحضور كثيرًا.