دخلت أم عادل المطبخ وهي تحمل السلم الصغير.. رأتها سراب.. أسرعت لمساعدتها.. أبعدتها درة عنها خشية أن تؤذي نفسها بالسلم – فقد سبق لها أن أجهضت جنينا حملت به بعد عادل عندما حملت سلما حديديا صغيرا، وهي اليوم لاتريد أن تخسر حفيدها المنتظر- وضعت السلم الخشبي على الحائط الشرقي.. ثبتته جيدا فوق الأرض.. صعدت إلى السقيفة وسراب تمسك به.. ابتلعها باب السقيفة المفتوح.. سُمع صوت زحزحة أغراض نحاسية وزجاجية.. عادت بعدها درة بنرجيلة كاملة لم تشاهدها سراب من قبل في هذا البيت، لكنَّ شكلها يدل على أنها قديمة وغالية الثمن فهي من الكريستال الأصلي.. سألتها عن سبب إنزالها اليوم من مخبئها الآمن، فأخبرتها بأنها ستقدمها لشيماء الرابح لتدخن بها نَفَسَ ..
– من أين لك هذه التحفة؟
– أما ترينها نرجيلة عجوز معمرة مثلي؟ اشتراها عمك ولم يستعملها.
فسألتها سراب :
– ألم تدخني بها ياامرأة عمي؟
– لا.. أنا ضد التدخين للرجال والنساء معا، أحمد الله على أنني لم أدخل إلى رئتي دخانا ولا نيكوتين، فليس منه إلا الضرر والأمراض وحرق المال بلا فائدة، وأحمد الله أن عادل أيضا لم يتعلم هذه العادة السيئة.
– وعمي ألم يكن مدخنا.
– لا. ولكنه اشتراها ليقدمها للزوار إن جاءنا من يدخن منهم، فأهل الجزيرة كما تعرفين كلهم تقريبا مدخنون إلا من رحم ربي. عادة سيئة لا أحبها، ولا أحب رائحتها ولا رائحة الفحم ولارائحة المدخنات.
– لمَاذا ستقدمينها لشيماء الرابح دون سواها ممن يأتين لزيارتنا، وأغلبهن مدخِّنات.
– لأنها لا تشرب قهوتها دون نرجيلة.
– وهنَّ كذلك.
– لاأدري ياابنتي لماذا، سأكرمها والسلام، فقد أرسلت لك الببغاء.
– أتكرمينها بما يضرها؟
– معك حق، ولكن نَفَسَا واحدا عندنا لن يقدم ولن يؤخر شيئا فهي مدمنة نرجيلة.
– لا أوافقك الرأي ياامرأة عمي، هذه ازدواجية.
– سراب دعينا من المعالجة ولا تحرجيني، ألن تحضِّري لها بعض الحلوى.. اقترب موعد وصولها؟
حديث سراب جعل حماتها تفكر بكل كلمة قالتها كنتها الشابة ذات التجربة الحياتية القصيرة أمام برجها العالي، فوجدتها على حق وهي على غيره. تأثرت كثيرًا بما سمعت منها فرددت بينها وبين نفسها” جلَّ من لايخطئ، شابة تعلم ختيارة عجنتها التجارب وخبزتها، يظل الإنسان بحاجة للعلم ولو من طفل صغير، سبحان الله الكمال له وحده” .
قررت درة أن تنسحب من دائرة الخطأ هذه، فالإنسان يجب ألا يكون بوجهين، فكيف بمن يتخذه الكثيرون قدوة لهم؟ عيب ، أجل عيب والله.
قررت التراجع دون خجل، فالاعتراف بالخطأ فضيلة، ولكنها وجدت نفسها بحاجة للتفكير لإيجاد الطريقة المثلى للتصرف بأسلوب راقٍ لايترك ندوبا في نفوس الآخرين خاصة فيمن يُعرفون بالشفافية، ورقة الأحاسيس، وهي كما تعتقد من هؤلاء.
دخلت سراب المطبخ لتحضير طبق من الحلوى لتقدمه لشيماء الرابح، بينما كانت حماتها تسقي الحوض الترابي وتنظف الدار، وصوت الببغاء يملأ الأجواء زعيقا ونداءات أدخلت السرور إلى قلبَي المرأتين، فراحتا توجهان له من بعيد نداءات مماثلة راح يرددها بصوت رفيع.
أحبَّتْ سراب هذا الحيوان الناطق العجيب، الذكي جدا حسب ظنها.. شرد ذهنها بحبها المفاجئ له، فسألت ذاتها عن الحب الذي سيكون لابنها عندما يأتي إلى الدنيا، فهي منذ الآن تحبه وترسم له صورة لايشبهها أحد من الناس، سيكون ابنها طفلا استثنائيا أوليست أما، والأم لا ترى أجمل من طفلها بين كل الأطفال ولو كان أقلهما جمالا.
أشعلت أم عادل الفحم في المنقل النحاسي العتيق.. صار جمرا، خرجت من البيت لبضع دقائق عادت بعدها وفي يدها كيس صغير فيه علبة تنباك عجمي نقعت قليلا منه في صحن صغير، ثم جهزت النرجيلة بانتظار الزائرة الكريمة، وكأن الببغاء أحس بأن سيدته ستحضر عندما وصلت إلى أنفه رائحة الفحم والتنباك، فراح يصفر دون انقطاع، فاقتربت منه سراب ووضعت له شيئا من بزر دوار الشمس طعامه المفضل، فتلهى به موقفا وصلة الصفير المزعجة التي استمرت طويلا.
بقلم
زاهية بنت البحر
Like this:
Like Loading...