آذار.. الرّبيع موسم التفتح والجمال، طقس التفاؤل والعطاء، ولكنه مختلفبالنسبة للصيَّادين، دائماً يأتي بوجهين، يوم مشرقٌ، بحرُه هادئ يغريبخوض غماره صيدا وسفرا ونزهة، والسعادة ترفرف فوق الجزيرة بأجنحة النوارس وغاقاتها البديعة، وبزقزقة الأطفال فوق الصخور، ونصب الشباك فوق الأسطح والساحات لصيد النُّفُّج، وآخر غائمة سماؤه، هائجٌ بحرُه يوحي باليأس من فرج قريب. في أحد هذه الأيامالرمادية، المتشحة بالبؤس خرج عادل من البيت منزعجا وفي رأسه الكثير من التساؤلات. مشى في الحارات التي تملأ الجزيرةعلى غير هدى.. لم يكن يقصد هدفاً معيناً، فقط يريد أن يمشي عبر الأزقة الضيقة التي لا يتسع بعضها لمرور شخصين دون مواربة، هكذا تعود منذ الصغرعندما يحس بالضيق يمشي في الأزقة بعض وقت ثم يعود إلى البيت وقد استعاد شيئًا من الراحة النفسية. كانت أمه تلومه على ما يقوم به لكنه لم يترك هذه العادة وظلت مرافقته حتى اليوم.
عادل يحب جزيرته ولاعجب في ذلك، فهورغم زيارته لعدد كبير من مدن العالم، وبعض الموانئ الشهيرة ومشاهدته لمظاهر الحضارة فيها، والتي تفتقد جزيرته الصغيرة الوادعة إلى أقلِّها تطوراً، فإنَّه كان يحب أزقتهاالخانقة حباً جماً، ولكنَّ حبه الكبير هذا كاد اليوم أن يتحول كرها عندمارأى جمهوراً غفيراً من القطط، وقد تجمَّعت حول أكوامِ القمامة الملقاة خارج البيوتدون أكياس، والذباب والبعوض يحوم حولها بشكل مقزِّز، ورائحة كريهة تنبعث منها جعلتهيحسُّ بالغثيان والاشمئزاز، فأغلق أنفه بإصبعيه، والذباب يحيط به كأنَّه وليمة شهيَّةله ، وأسرع باجتياز الحارة التي اشتهرت بعدم نظافتها بخلاف بيوت سكانها، والتي تسببحرجاً لأهالي الجزيرة أمام السُّيَّاح.
رفع أصبعيه عن أنفه بعد ابتعاده عن رائحة الأوساخ وتراجع الذباب عنه.. استنشق الهواء بملء رئتيه هرباً من الاختناق، وسرعانما تجدد شعوره بحب الجزيرة فحدَّث نفسه:
– آه لو كنت رئيساً للبلدية. – وماذا كنت ستفعل ياشاطر، إن كان الأهالي قد تعودوا رمي الأوساخ قرب بيوتهم؟ أجاب نفسَهُ: أفعل الكثير، الكثير. – كلُّهميقولون مثلك في البداية، ثم يصابون باليأس من الإصلاح، فينسوا ويطنّشوا ليبقوا في البلدية. – ولكنَّنيلن..
– حتى عمال النظافة يهربون..
– سأحـاو… – لن تصل إلى ما تريد، فلا تتطاول كثيرا.
– صدقت ومن أنا كي أتطاول كثيرا أو قليلا؟!! خرج من دائرة الأسئلة والأجوبة ليجد نفسهمواجهاً للبحر غربَ الجزيرة. امتطى صهوة صخرة عالية قديمة التاريخ مجهولته وجلسفوقها مبهوراً بعظمة الأمواج الصاخبة التي راحت تضرب الشواطئ والصخور بثأر لايعرفه. حاول اكتشاف المجهول بنظرة إلى الصخور المجاورة، والبعيدة يستطلع منهاملابسات الثأر، ولكنَّه فشل في استدراجها للاعتراف. جثا صامتاً.. حائراً تتقاذفالأمواج أفكاره ثمَّ تلقي بها فوق كتل الأوابد القاسية.. الصامدة فتكسرهابالعناد. أحس بالبرد يأكل عظامه، فوقف يحرك رجليه كجندي أثناء التَّدريب ليطردالبرد من شرايينه قبل أن تتجمَّد فيها الدماء، أعجبته الحركة فكررها كثيرا وسرح بأفكاره بعيدا متمنيا لو أنه خدم في الجيش وجرَّب حياة العسكربكل مافيها من نشاط وقوة، لكن للأسف لم يتسنَ له ذلك لأنه وحيد، ومن كان وحيدا لأمه يُعفَ من خدمة العلم.
شعر بشيء من الحرمان.. توقف عن المراوحة وبعض دفء يسري في داخله، وعندما ترجل عن صخرته قدَّمت لهالأمواج بغتة هدية غريبة جعلت جسده يرتعش لدقائق كادت خلالها أطراف لسانه تقرضتحت أسنانه المضطربة عندما فقد السيطرة على مشاعره وهو يرى كرم البحر يستقرُّ فوقالصخور خارج الماء.