ظل فكر عادل مشغولا بما أخبره به أحمد حتى ساعة متأخرة من الليل، نهض من فراشه، وعندما هم بالخروج من مهجعه استوقفه صوت أحمد: انتظر ني، أنا أيضًا أحس أرقًا. جلسا هذه المرة في مقدمة السفينة صامتين وكأن على رأسيهما الطير. كان الجو جميلا وانبلاج الفجر يقترب موعد الإعلان عن مولده، بينما كان القمر يتجه إلى البعيد ليحل ضيفًا على مشاهدين له في مكانٍ آخر. نظر أحمد إلى عادل فرأى فيه قلبًا هو الآخر يسافر إلى حيث وليفه.
افتر ثغره عن ابتسامة خفيفة ويده تهوي فوق الجهة اليسرى من صدره، أحس بنبض قلبه يتسرع رويدا رويدًا، فامتثل لأمر عقله في وقف تسرعه بمحادثة عادل عله يسترجع اطمئنان فؤاده بعد أن لعب به الشوق لأهله وخطيبته لمى، التي وعدها بإحضار مهرها والمبلغ اللازم لإتمام تجهيز بيتهما ومصاريف حفلة الزفاف.
لمى ابنة خالته أجبرته أمه على خطبتها بعد وفاة والدها في الصيف الماضي، عندما كان يغطس في أعماق البحر مرتديًا بدلة الغطس “وهي عبارة عن ثوب كتيم ورأس نحاسي ذو نظارة زجاجية وحذاء رصاصي زنته بحدود 30 كغ , وأنبوب مطاطي يصل الى الآلة التي تزوده الأوكسجين والتي هي بنفس الوقت تعدل الضغط للغواص” لاصطياد الإسفنج، فتعرض لتأثير الضغط المرتفع تحت الماء فاختل ضغط جسده، ومات بعد خروجه من الماء بوقت قصير، كثيرون هم الذين قضوا نحبهم مثله، وقلما يمر صيف اصطياد دون أن يموت غطاس أو أكثر عدا عمن يصابون بشلل نصفي، أو إعاقة دائمة في أحد الأطراف، ورغم ذلك فاصطياد الإسفنج هو أهم وأسرع وسيلة للغنى، وأكثر اجتذابًا لشبان الجزيرة والغرباء أيضًا.
لم يكن أحمد يرغب بالزواج من لمى لتعلق قلبه بفتاة رومانية وعدها بالزواج، وكان يصرف عليها الكثير من المال، ولكن والدته خافت أن تفقده بزواجه من الرومانية ، كما حدث مع الكثيرين من الشبان الذين تركوا الجزيرة وعاشو في رومانيا بالقرب من زوجاتهم أو عشيقاتهم، فأقسمت بالله إن لم يتزوج من لمى فلن تراه مدى الحياة. وبعد طويل تحدٍ ومقاومة استسلم رغمًا عنه، وانصاع لرغبتها بينما ظل قلبه يلهج بحب أنيتا.
مرت الأيام وبدأ قلب أحمد يحول اتجاه دقاته نحو لمى خاصة عندما علم بأن أنيتا على علاقة بأكثر من بحارٍ من الذين يرتادون الموانئ الرومانية من مختلف البلدان، ومالبث أن تعلق بلمى كليًا، وأحس بأن سعادته لن تكون إلا مع ابنة خالته العفيفة، النقية المحبة له. لم يكن انتباه عادل شديدًا لحديث أحمد، سمع منه الكثير لكنه لم يعِ منه إلا القليل، كأن بينه وبين سيادة وعيه حاجزًا أقامه الليلة ربان السفينة عندما سرق السرقة دون خوف من الله ولا خجل ممن يعرفون الحقيقة.
أمور كثيرة ظلت تدق في رأسه بمطرقة تأنيب الضمير لسكوته على ما حدث. كان يعنف نفسه بشدة، فترد عنها اللوم باتهام أحمد أيضًا بالسكوت على ذلك، ولكن سكوت أحمد أكبر ذنبًا من سكوته هو، لأن أحمد كان على دراية بحقيقة الربان، ورغم ذلك لم يبدِ امتعاضًا بل الأنكى من ذلك فقد راح يسخر منه ويتهمه بالسذاجة، ومما زاد قهره تأججا قوله بأن معظم القباطنة هم على شاكلة قبطان سفينتهم الغراء التي مازالت تشق طريقها في البحر دون أن تتأثر بما كان، أحس بالغيظ منها لكنه عاد يعذرها فهي أجير مأمور، عليها تلبية تعليمات الربان الموجهة إليها من غرفة القيادة يحركها بها كيفما شاء دون أن تبدي اعتراضًا على مايريد وإلا حلَّ بها مالا تحمد عقباه وهو لا يختلف عنها إلا بكونه إنسانا إن قال لا طرد أو ربما قتلَ عقابا له لمخالفته أوامر رئيسه.
في ليلة مقمرة من ليالي أيلول، جلس عادل وزميله أحمد على حافة مؤخرة السفينة يتسامران بين سماءٍ وماء، يؤنس وحدتهما القمرُ بدرًا، وخياله يتراقص تحت سطح البحر بجمالٍ أخاذ على أنغام صوت أم كلثوم من الجانب الآخر للسفينة، كأنه في حفل بين الأحياء البحرية، فتلهب المعاني بالصوت الرخيم والآهاتُ الحارقةُ أشواقـَهما لمن تركوهم في الجزيرة بانتظار عودتهما سالمين على أحر من الجمر، وما استطاعت النسمات العليلة المحملة بأنفاس البحر الباردة أن تخفف من لهيب الحنين في صدريهما، فبدت الحيرة بتهدج صوتيهما بحزن عميق، وهما يبثان شكوى الفراق وهموم الحياة، وصعوبة تأمين لقمة العيش في بلدهم بينما تذهب عائدات تعبهم لمالك السفينة..
كانت النجوم الساهرة تسترق السمع إليهما عن كثب، تكتم مايبوحان به من شجن ، وتسعد باستنشاق الشذا من حريق القلوب، ونورها يتمايل مع رفات الجفون. تحدثا طويلا، وأنصتا للست كثيرًا، طال الليل وهما يتأرجحان بين حلم ويقظة، حقيقة وخيال، تلمع في عيونهما بعض دموع يحجرانها رجولة بتماسكٍ مؤلم، ما تلبث أن تختطفها النجمات طمعًا بالمزيد من دمع العيون. هما يعلمان أن الحياة صعبة، متعبة ، مؤرقة، وأن الراحة فيها لا تكون إلا قليلا، ويعلمان أيضًا أنَّ العمل واجب مقدس مهما كان صعبًا ماداما قد اختاراه طواعية فيما قدِّر لهما من حياة أوجدهما الله فيها بظروف بيئية معينة، تفرض عليهما مثل هذا العمل فوق ظهر بحر لا يعرف الرحمة في ساعات الغضب الرهيبة،رضيا به لتحسين ظروف الحياة في جزيرة نائية تعيش قلقة بين فصولٍ أربعة أشدها قسوة عليها الخريف والشتاء، فيموت من يموت ويمرض من يمرض دون أن يحس بهم أحد.
تذكرا من سافر ولم يعد إليها، من مات حرقًا أو غرقا، ومن أحضر في تابوت، ومن لم يُحْضَر منه سوى حقيبة تبكي فقيدها، تذكرا لوعة الأهل على فلذات أكبادهم وهم يشاهدون جنون البحر الأهوج أيام الشتاء، وكيف ينسون أنفسهم باحتلال الخوف قلوبهم، واهتياج مشاعرهم كلما سمعوا عواء الريح يملأ أجواء الجزيرة رعبا، وينشب أنيابه في أفكارهم بأسوء الاحتمالات، تذكرا من قضى نحبه بانتظار رجوع الربيع، فانتقلت الروح إلى ربها والغائب لم يعد والربيع أطال الغياب. مضى النصف الأول من الليل، وقبل مضي ساعة من النصف الثاني منه، استدعى الربان البحارة ومساعديه على عجلٍ لأمر هام.
انشغل الجميع بتحضير نقل المازوت للسفينة الأجنبية التي استنجدت بالربان، كي يزودها بالوقود الذي نفذ منها إثر ثقب حلَّ بخزان الوقود، فلم يعد لديها ما يكفي لمتابعة الرحلة في عرض البحر.
تمت العملية بنجاح، وقبض الربان ثمن المازوت بأضعاف ثمنه، وعندما ابتعدت سفينته عن السفينة الأخرى، راح يضحك بصوت عال ووزع على البحارة الحلوى مما جعلهم يستغربون أمره، لم تطل مدة الاستغراب كثيرًا بالنسبة لعادل بعد أن أعلمه أحمد بأن الربان قد باع المازوت مغشوشًا بالماء، وقبض سعره غاليًا، وكان أيضًا قد استغفل مالك السفينة التي يعملان فيها، فسرق منه ثمن كميات وهمية من المازوت قبل الإبحار من الجزيرة، وهاهو الآن يفخر بسرقة السرقة. أحس عادل بانقباضٍ في صدره مما سمع، استغفر الله كثيرًا، خاف أن ينتقم الله من القبطان فيغرق السفينة بمن فيها، ولكن إيمانه جعله يتماسك بعد وقت قليل، مقررا بينه وبين نفسه أن يترك العمل مع هذا الربان الحرامي عندما يصل إلى أول ميناء قرب اليابسة.
سخر أحمد من سذاجة عادل فقال له: الربان الأمين في هذا الزمن عملة نادرة جدا وقس على ذلك من هم أعلى منه، ليس هنا فقط، وإن كانت أكثر ظهورًا عندنا عمن سوانا، إنهم يسرقون بطريقة أو بأخرى سرًا وعلانية، يسرقون ثمن المازوت، وثمن الطعام وأجرة البحارة وحتى أعمارهم.
ربما كانت السَّاعة الواحدة ليلاً عندمااستيقظت العجوز فزعة، تتقاذفها الأوهام، هبَّت من فراشها، أشعلت نور المصباحالكهربائي، وخرجت من غرفتها إلى فسحة الدَّار. أحست برهبة، اقشعر بدنها وهي تسمعصوت الرِّيح كعواء الذِّئاب يزداد حدَّة باشتداد اهتزاز أغصان الأشجار التي تغطيفناء الدَّار. تفقَّدت عيناها أرجاء المكان، فرأت نوراً ينبعث من حمَّام البيتفي الخارج، وسمعت صوت حركة هناك، اقتربت من مصدر النُّور والصَّوت على حذر، من تراه هنا؟ الابواب والنوافذ مقفلة.. أيكون حرامي استغل غياب عادل ونزل البيت للسرقة؟
سمعت أنين سراب،خافت أكثر، ترى هل أصابها مكروه، أسرعت باتجاه الحمام، وعندما وقفت ببابه، فوجئت بسراب وهي تتقيَّأ فوق المغسلة،ازداد خوفها حدة، سألتها: مابك ياابنتي؟ نظرت سراب إليها بتعب وقالت: أشعر بالغثيانودواراً مزعجاً يا امرأة عمِّي. قالت العجوز:عودي إلى غرفتك، تعالي، هاتي يدك، سأستدعي طبيبالجزيرة لمعاينتك. لا أريد طبيباً، إنَّني (وأشارت إلى بطنها( شهقت أم عادلشهقة كادت تودي بحياتها، سألتها: هل أنت حامل؟ هزَّت سراب رأسها بالإيجاب: منذمدة قريبة. فقالت العجوز بعتاب يمتزج بدمع الفرح: لِمَ لمْ تخبريني ألا أستحقمنك هذه الفرحة؟ أجابتها بخجل: بلى والله تستحقّيِنها وزيادة، لكنني كنت أخشىألا يكون الحمل حقيقيا. رفعت أم عادل يديها نحو السماء تقدم قربان الشكر دمعاً: الحمد لك يارب.. كم أنت كريم. سأزغرد. استوقفتها سراب ممسكة بيدها: لا تفعلي،جعلتك الفرحة تنسين أننا في وقت متأخر من الليل. فقالت أم عادل: وليكن لم يعدللوقت عندي حساب. قالت سراب: حسنا فلننتظر حتى تشرق الشمس، أليس الغد لناظرهقريبا؟ أجابت العجوزهذه المرة بحكمة وهدوء: بلى فالعمر لحظة.
العمر لحظة، ولكنكم تضم هذه اللحظة من حوادث فرح وحزن ومفاجآتٍ يرسمها القدر بعيداً عن إرادةالبشر؟ قضية أم عادل كانت حلماً حاربت من أجله بسلاح المنطق والأخذ بالأسباب،فهي تريد حفيداً يحمل اسم زوجها هاشم، فما انتصرت بمنطقها، وما تحقَّقت قضيَّتهاإلا بإرادة الله، فحدثت المعجزة، وتهاوى المنطق البشري أمام القدرةالإلهيَّة. رائع هذا الصباح أحست درَّة بفتوة تنمو في جسدها المثقل بسنواتالتعب، المحني بهموم العيش، المفرغ من بريق الوعد. العمر لحظة.. قطع قطار زمنهاخلالها محطات كثيرة حاولت أن تنسجم معها بمنطق الحكمة، تحَوِّلُ الحزن فيها فرحاً،واليأس أملاً، ولكن بقناعة المعدم. العمرلحظة خلعت القناع، ضمها الأمل إلىكتائبه الباسمة الزاهية بالألوان، ألبسها الربيع ثوباً، والشمس إشراقاً،والتفاؤل وشاحاً. مساحة الأمل لا تحصرها حدود، فسيحة كالأحلام، شاهقة كالمستحيل،بديعة كالولادة. حملتها فرحتها الوليدة إلى عوالم براقة ساحرة.. حنونة.. فوضويَّةالرُّؤى.. سمعت فيها صوت هاشم يناديها.. رأته يلعب معها.. تحضنه.. تطعمه..تقبِّله، يهرب منها.. أحبت البداية وكرهت النهاية، وهنت ركبتاها.. شهقت.. أسرعتتمسك به لا تريده أن يهرب منها أبداً.. أبداَ.. خافت عليه في الحلم.. نعم، ولكنَّهاستخاف عليه في الحقيقة أكثر.
لا لن تخبر أحداً بحمل سراب خشية الحسد، فالعيونفارغة لا يملأها إلا حفنة من تراب، وهي لم تصدق أن سراب ستحمل يومًا فلن تتركهاصيدا للعيون الفارغة. الحرص هنا واجب، وسيكون مسلكها، لن تخبر أحداً حتى عادل لنتبعث إليه بالبشرى كي لا يترك السفينة، ويعود، فيخسر المال الذي سيشتري به البيتالجديد، تريد أن تطمئن على سكنه قبل موتها. تغير المنطق أم هي التي تغيرت؟ فوضىالفرح، فوضى الأحاسيس المتمرِّدة، فوضى اللحظة، ترى من تغير؟ هي تعرف فقط أنَّهايجب أن تكون حريصة في المحافظة على هاشم وليكن ما يكون. وافقت سراب أمَّ عادلالرأي بشأن إخفاء خبر الحمل. عجوز قدَّرت وشابة تفهَّمت فكانالاتِّفاق. إتِّفاق سرِّيٌّ أبرم بين الخريف والربيع فأنجز خيراً. إنجاز مهملن يعلم به سوى عائلة سراب، وأخت عادل وجيهة، وبذلك يبقى الخبر طيَّالكتمان. أسرة سراب لا تحب الثرثرة.
أب صارم حازم لا يجامل أحداً، لكنَّه يحسن التَّدبير، هادئ الأعصابغالباً، يشكو من ارتفاعٍ في ضغط الدم، لم يرزق ذكوراً. علية أم سراب سيدة فيالخمسين من العمر، عاطفية، من أصل تركي، أنهت دراستها الابتدائية في الجزيرة،تزوَّجت في الرابعة عشرة من عمرها، وأنجبت خمس بنات أصغرهنَّ سراب. حدَّثت ْعليةزوجها بشأن إخفاء خبر حمل سراب، اتَّهم الجميع بالهذيان، وعقم التفكير، وأعلنبراءته مما يعملن. وبعد كثير من المناقشة والمجادلة، وافقهنَّ على مضض من أجلعادل، وهدفه المادي الذي سافر في البحر من أجله، وليس من أجل الحسد، وقلة عقلالنسوان. قال لزوجته: عجيب أمر النساء والله، كنتنَّ تلهثن وراء الحمل، والآنتلهثن من أجل ستره! سألته علية: ساعدنا بطريقة تمكننا من ستر الحمل دون قيلوقال؟ فقال متبرمًا: حسبي الله نعم الوكيل من كيد النساء، ومن أفكارهنَّالغريبة. فقالت: هذا الأمر لن نختلف فيه أبداً، ولكن أنقذنا مما نحن فيه منحيرة؟ قال بعد تردُّد: لا حول ولا قوة إلا بالله ، اسمعي جيدا إن كنت تصرين علىرأيك في كتم الخبر. قالت بلهفة: قل يارجل وأرحني أراحك الله من أعدائك؟ قال: في الأشهر الأولى لا توجد مشكلة لأن الحمل يحتاج لوقت كي يبدو للعيان، وماتبقى منأشهره تجلس سراب في البيت، ولا تقابل أحداً حتَّى يقضي الله أمراً كانمفعولا. سألته: ولكن قد تطول مدة احتجابها عن الناس، فماذا سنقول لهم إن همسألوا عنها؟ أجاب: لن تعدمن حجَّة، إن كيدكن عظيم.
لم تخرج سراب من غرفتها إلا للوضوء طوال اليوم إلى أن غادرت وجيهة وأولادها البيت، فراحت ترتب المنزل وتنظفه فقد تركت وجيهة كل شيء على ماهو عليه دون أن تكلف نفسها مشقة إصلاح ما أفسده أولادها من كسر صحون وشق ملاءات وغير ذلك، حتى أنها لم تعتذر من زوجة أخيها رغم علمها بما سببت لها من ألم.
أسرعت أم عادل تساعدها بصمت، فقد كانت هي الأخرى في حال لا تحسد عليها، يفضحها احمرار وجهها وتصبب العرق من جبينها رغم ما طرأ على الطقس من تغير في درجة الحرارة التي مالت للبرودة قليلا، فقد امتلأت السماء بالغيوم الداكنة، وهبت ريح مفاجئة راحت تشتد ساعة بعد ساعة، فحمدت سراب ربها في سرها على أنها لم تذهب وأهلها إلى جزيرة الحبيس فهي تخاف من ركوب البحر عندما يهيج ويموج، ومن يدري فقد كان من المحتمل أن يحصل ذلك وهم في الفلوكة في وسط البحر، وعندها لا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحدث لهم، وخطرت في بالها حوادث كثيرة راح ضحيتها رجال ونساء من جراء غرق المراكب في أحوال جوية سيئة مرَّت على الجزيرة من عهد قريب وأخرى من عهد بعيد، وتذكرت زوجها فانقبض قلبها ودعت له بأن يحفظه الله فالبحر غدار لايؤتمن على قشة.
تشابكت أحاسيس قلقها على زوجها مع انشغال بالها على أمها وأبيها، تمنت أن تذهب إليهما للاطمئنان عليهما، ورغم ذلك لم تنبس ببنت شفة، وحماتها تنظر إليها بين الفينة والأخرى بانتظار فك الحصارعن لسانها بأي كلمة تنطق بها، حتى لو كانت بشتم ابنتها.
طال انتظار العجوز دون فائدة، وهي تتقلى على جمر الصبر.
عاد البيت مرتبا نظيفا بعد ساعة ونيف من العمل كما كان قبل مجيء وجيهة وأولادها إليه. وقبل أن تعود سراب إلى غرفتها سمعت حماتها تناديها، التفتت إليها، رأتها تحمل صينية قش صغيرة وفوقها أطباق الطعام، أشارت إليها برأسها أن اقتربي وعلى ثغرها ابتسامة رقيقة. وقفت سراب تنظر في وجه العجوز وطيف عادل يلوح لها من بعيد وصدى كلماته يرن في أذنها( أمي أمانة في عنقك ياسراب) وظل صوته يلاحقها وهي تركض صوبها.. تتناول الصينية منها ودموعها تملأ وجهها، والعجوز تربت على كتفها قائلة بفرح: أصيلة ياسراب. تناولي طعامك، واستعدي لنذهب معا إلى بيت أهلك فقد اشتقت لأمك كثيرا.
وضعت سراب صينية الطعام فوق الأرض وعانقت حماتها ولسان حالها يقول، ليس لك ذنب فيما حصل ياامرأة عمي.
لم تعد أم عادل وسراب من بيت أهلها قبل أن صفت القلوب خاصة بعد أن قال والدها بأن كلام وجيهة فيه من الصحة الشيء الكثير، ولكن في الآونة الأخيرة مُنع هؤلاء الشبان من الذهاب إلى الحبيس يوم الجمعة، ولاشك فإن وجيهة لو علمت بذلك لما حدث ماحدث.
عادت سراب وحماتها إلى البيت والابتسامة فوق ثغريهما وقد تلاشت من سماء نفسيهما غيوم الحزن وأشرقت فيهما أنوار الصفاء والمودة وهما تتبادلان تحية ما قبل النوم وتأوي كل منهما إلى غرفتها.
في تلك الليلة كانت السَّماء ملبَّدة بالغيوم، تلاقى فيها خريف امرأة بخريف عام فكيف كان اللقاء؟ لم تكن أمُّ عادل نشيطة هذا المساء، فقد أحسَّت بوعكة مفاجئة، فأوت إلى فراشها بعد صلاة العشاء، تدثَّرتْ ببطانية سميكة، وألصقت ركبتيها ببطنِّها طلباً للدِّفء، وغطَّت في نومٍ عميق، بينما كانت سراب تسهر في غرفتها وهي تتابع إحدى التَّمثيليات على شاشة التِّلفاز.
توالت الأيام كحلم لا تخلو أحياناً من بعض شرود، وشيء من الدُّموع حاولت فيها سراب أن تسلي نفسها بالعمل في أشغال البيت، ومساعدة حماتها في تخزين الأغذية التموينية التي يحتاجونها في الشتاء. فكانت تقضي معظم أوقاتها بمحادثة أم عادل وقلَّ ما كانت تقوم بزيارة أهلها إلا عند الضرورة أو إن كانوا باجتماعٍ عائلي، فهي تحب أسرتها وتحب الاجتماع بهم ولكنها مراعاة لزوجها كانت تقلل من زيارتهم كي لا تترك حماتها وحيدة في البيت.
خلال السنوات العشر الماضية كانت علاقة سراب بأم زوجها رائعة، فكانتا تتعاملان معاملة الأم وابنتها. وكثيرا ما كانت وجيهة تغار من زوجة أخيها ولكنها لم تكن تظهر غيرتها بشكل عدائي، وإنما كما يقول المثل العامي( بالأمزاح تشفى الأرواح) وكانت سراب لا تبدى ضيقا رغم ما يترك الكلام في نفسها من جراح، فكانت تعمل بالمثل القائل( كرمال عين يكرم مرج عيون)، فعاشت بهدوء دون أن ينغص حياتها قيل ولا قال اللهم إلا شعورها باحتياجها لطفل صغير يحقق لها حلم الأمومة والشعور بأنها أنثى لا ينقصها شيء.
ذات جمعة جاءت والدة سراب لزيارتها باكرا، استقبلتها أم عادل بالترحاب وكانت وجيهة هي الأخرى قد جاءت لزيارة والدتها برفقة أولادها، فقد درجت على هذه العادة في كل يوم جمعة من الصباح وحتى المساء، وكانت سراب تقوم بمساعدتها طوال اليوم بأمور أولادها الخاصة منها والعامة دون ضيق أو تذمر.
قامت أم عادل بواجب الضيافة على أكمل وجه مرحبة بالزائرة الكريمة، ودعتها لتناول الغداء الذي يعدون له، فاعتذرت بلباقة وهي تنظر إلى ابنتها سراب وقد بدا الذبول في وجهها جليا رغم فرحها بزيارة أمها المفاجئة، وازدادت فرحا عندما أعلمتها بأن والدها سيأخذهم بعد صلاة العصر إلى جزيرة الحبيس للسباحة هناك، فالطقس اليوم جميل، والبحر هادئ يغري بخوضه وتوديع الصيف قبل رحيله، فقد اقترب أيلول ولن يعود باستطاعتهم الذهاب إلى جزيرة النوارس والسباحة فيها بعيدا عن أعين الرجال.
أبدت سراب موافقتها ودعت حماتها ووجيهة لمرافقتهم في هذه الرحلة. ابتسمت أم عادل وشكرتها على الدعوة، لكن وجيهة امتعضت وقطبت مابين حاجبيها مبديةً استياءها من الموضوع بحجة أنه يوجد في جزيرة الحبيس بعض الرجال الذين يتعاطون الخمر، وأن عادل لو علم بذلك لما وافق على ذهابها مع أهلها.
أحست والدة سراب بالضيق مما تفوهت به وجيهة وأحدث ذلك في نفسها شرخا قد لا ترأب صدعه الأيام خاصة وأن زوجها هو من طلب منها دعوة ابنتهما، وأنه يخاف على أسرته من الطير الطائر، ولو كان يعلم حقيقة بوجود من ذكرتهم وجيهة لما فكر باصطحاب أهل بيته إلى مكان مشبوه.
التزمت سراب الصمت ودمعة تلوب فوق جفنها، وعندما ودعت أمها لم تتمالك نفسها.. دخلت غرفتها وأغلقت وراءها الباب، وغرقت في بحر من الدموع تألما على أمها من تلك الصفعة التي وجهتها إليها وجيهة بأسلوب فج لم تلتزم به أدب الخطاب.
وعندما دعتها حماتها لتناول الغداء اعتذرت منها بحجة أنها تشعر بالنعاس وهي بحاجة للنوم. لم تلح العجوز عليها بالطلب فقد أحست حقيقة بشعور سراب تجاه ما قالته ابنتها لوالدتها، واكتفت بتوبيخ وجيهة عندما انفردت بها في المطبخ، وطلبت منها الاعتذار من سراب ووالدتها، فأبت لأنها كانت تعتقد بأن ماقالته صحيح، وهي تخشى أن تلوك سمعة أخيها الألسن التي لاترحم أحدا.