حاولت النوم فلم تغمض لي عين، وكأن سرير عمي مليء بالأشواك رغم أن جدتي تهتم به بغياب صاحبه في أمريكا منذ زمن.. ليت عمي يأخذني إلى أمريكا، فيريحني من ظلم الجميع لي.. حتى عمتي التي ربتني لم أعد أراها إلا نادرًا، فقد شغلت بابنتها وزوجها عني، أحيانا أتمنى لو أنها ظلت عانسا، وبقيت بقربي ترعاني وتحنُّ علي، فجدتي أصبحت شبه عاجزة لاتستطيع رعايتي، وفهمي نفسيًا رغم حكمة الشيوخ لديها.. أه ياجدتي آه.. ماكنت أعرف معنى الخَرَف قبل أن أتفوه بها في وجهك.. كنت أظنها تقال لمن أصبح شيخًا، وأنت قد وصلت سن الشيخوخة، ولكنك تحملين عقلا كبيرًا.. أجل هو كذلك أنت لست بقليلة العقل، ولكن مادمت تحملين في رأسك عقلا كبيرًا، فلماذا تركت أبي يطلق أمي؟ لماذا لم تردّيني إلى حضنها عندما أخذوني منها؟ لاشك هناك الكثير من الأسئلة التي سأطرحها مستقبلا عندما أكبر، ويصبح باستطاعتي السؤال والبحث عن الجواب الذي يريحني من عذابي وقلقي.. آه ياجدتي ليتك تجربين ما أعانيه من مرِّ العذاب، لتعرفي ثقل ما أحمله في قلبي الصغير حجمًا، الكبير همًا لأسرعتِ بمداواة جراحي، وعملتِ على ضمي لأمي وأبي معًا، وإبعاد زوجته عني وأنيابها التي لاترحم.. ترى من المسؤول عن تشردي النفسي، وحاجتي إلى الحنان والاستقرار؟ والله العظيم حرام عليكم جميعًا أن تتركوني غارقة في بحر الألم، أولست ابنتكم؟ أولست إنسانة تحس وتشعر؟ أولستُ طفلة لاذنب لها فيما حدث ويحدث؟!! أحيانًا أحس بكراهيتي للجميع.. للعالم كله وحتى لنفسي، فأبكي بعيدًا عن عيون الجميع هربًا من نظرات وكلمات الشفقة الكريهة.. الشفقة الكاذبة التي تغضبني فأرفضها بكل المسميات.. أريد حبًا حقيقيًا يمنحني الأمن والسعادة لاشفقة تزيدني شعورًا بالحرمان والنقص، وبأنني عبء على من حولي. ماذنبي ؟ ماذنبي؟ ماذنبي؟
42
وأنا أبكي وأتساءل عما جنيته في الحياة كي أزجَّ في جحيم لايطاق، يحرق زهو طفولتي، ويمزق أفراح قلبي البريء، سمعت صوت المؤذن في تسابيح الفجر، اقشعر بدني، وانهمرت دموعي فوق خدي تطفئ نار قلبي.. سرى في شراييني إحساسٌ غريب ماعرفته من قبل.. إحساس جعل نبضي يتسارع فلم أستطع التمييز بين الخوف وشيء آخر لاأدري ماهو، ولكنه على أي حال كان يشعرني بشيء من الطمأنينة.. أصغيت بكلِّي لصوت المؤذن، المنبعث من مئذنة المسجد القريب من بيت جدتي.. أحسسته قريبًا مني.. سبحان الحي القيوم.. ماذا يعني الحي القيوم.. من سيشرح لي ذلك؟ سبحان الواحد الأحد الفرد الصمد.. مامعنى الصمد؟ أنا أقرأها في الصلاة ولكنني لاأعرف معناها.. ترى أين أجد تفسيرًا لها؟ سأبحث عنها غدابإذن الله.. ياالله ما أعظم هذه التسابيح.. لم أسمعها في مثل هذا الوقت سابقًا، فأنا أجبرُ على النوم باكرًا، ولاأحد يوقظني لصلاة الفجر حاضرًا.. نهضت من سريري خلسة وذهبت للوضوء دون أن أحدث أي صوت يوقظ جدتي وجدي.. وعندما خرجت من مكان الوضوء، وجدت جدتي تقف أمامي، والدهشة تعتلي وجهها الشاحب، ومالبثت أن ابتسمت لي عندما رأت المياه تبلل وجهي وشعري ويدي وقدمي.. اقتربت مني وقبلتني بحنان، فاندفعت نحو صدرها أزرع نفسي في حضنها، فوجدتها تقع فوق الأرض مغشيًا عليها، فصرخت بخوف صرخة مزقت أستارالليل وغشاء الطبل في أذني جدي.
43
أعيدت جدتي بعد عدة أيام إلى المنزل، وهي بصحة جيدة بعد أن أسعفت وأدخلت غرفة العناية المركزة في المستشفى، إثر إصابتها بهبوط مفاجئ بالضغط.. لم أسامح نفسي على فعلتي النكراء عندما ارتميت في صدر جدتي المسكينة، فوقعت مغشيًا عليها.. لأول مرة تمتد يد أبي نحوي بالضرب، ويقسوعلي بالتأنيب كما فعلت عماتي وأولادهن وعمي محمود أكبر أفراد الأسرة، لقد شفى تعرضي للإهانة من الجميع قلب زوجة أبي مني، فرأيت السعادة ترقص في عينيها دون أن تنبت ببنت شفة.. بنت شفة؟ وهل للشفة بنت وولد؟ نعم.. نعم تذكرت ماقالته المعلمة يوم شرحت لنا معناها.. بنت الشفة هي الكلمة أجل الكلمة وليس الابتسامة.. ولكن من هو ابن الشفة؟ هذا مالاأعرف.. ولكن زوجة أبي تعرف ماتريد جيدًا ليتها تتفهم وضعي وتساعدني على تخطي أزمة حياتي الكبرى بابتعادي عن أمي، بل ليتها تضع ابنتها في موضعي، وترى كيف سيكون إحساسها تجاه زوجة أبيها، ربما جن جنونها إن هي علمت بما تفعله بها تلك الزوجة التي حلَّت محلها.. ياويلي لو أنها تعرف بما أفكر به لكانت قضت على حقدًا وكراهية، ولظنت بأنني أسعى لعودة أمي لأبي، وطلاقها هي فيصبح أولادها في رعاية أمي، هذا حلم أدعو الله أن يحققه، وتطرد هي من بيتنا.. سأطلب من أمي أن تعامل أولادها بقسوة كما كانت أمهم تعاملني، فليس هناك أحد يفضلني ولو كانوا أخواتي.. سها لاتطلب من أمها الكفَّ عن تعذيبي، وأنا عندما تعود أمي إلى البيت الجديد الذي اشتراه والدي، وسننتقل إليه قريبًا كما قال، لن أطلب منها الكفَّ عن تعذيب سها وهدى وحتى سامح الصغير البريء الذي لايستطيع الدفاع عن نفسه مثلي تمامًا انتقامًا لي منهم، أولستُ أنا أيضًا طفلة بريئة؟ مامعنى بريئة؟ أظن أنها تعني كما قالت المعلمة: نظيفة طاهرة لايشوبها ذنب، وعندما ستبكي هدى وسامح سأبكي معهم وأمي تضربهم ولاتطعمهم، وسأظل طفلة بريئة مادمت أبكي لأجلهم.. ترى هل سيحاسبني الله على نية الشر لأخواتي؟
مادام الأمر سيسبب لهم ألمًا وظلمًا، فسأحاسب عليه ولو ظنًا، فكيف سأكون بريئة وأنا أضمر الأذى لغيري ولأمي باقتراف الذنب؟
ليت زوجة أبي تكف عن اقتراف الذنوب ليتها..
44
عندما دخلت غرفة جدتي لأراها بعد عودتها من المستشفى، كنت خجلة جدا منها، فأطرقت رأسي أرضًا وأنا أقبل يدها، فجذبتي نحوها وضمتني إلى صدرها والدموع تنساب من عينيها المتعبتين.. أدهشني تصرفها هذا وزادت دهشتي أكثر عندما قالت لي: كنت سعيدة بك ياسحاب وأنا أرى آثار الوضوء على وجهك ويديك.. كان شعرك يلمع تحت الضوء الخافت ووجهك يكتسي نورا.. أنا آسفة ياحبيبتي أن سببت لك الخوف عندما وقعت مغشيًا علي.. ليس بسببك وقعت ياابنتي، فقد نهضت من سريري للوضوء، وأنا أحس بدوخة وشيء من الحرارة في جسدي، ولكن يبدو أن ضغط الدم انخفض عندي عندما قمت بسرعة، ولم أنتظر بعض الوقت قبل الوقوف.. اطمئني ياسحاب فأنت بريئة، وقري عينًا، ولاتشعري بتوبيخ الضمير من أجلي، فقد كان الأمر كله قضاء وقدرا، ولسوف أعيد لك حقك ممن أهانك وممن ضربك عندما اتهموكِ ظلما بما حدث لي.. فقلت لها بفرح: لايهم ياجدتي ماتعرضتُ له من ألم مادمت قد عدتِ إلينا سالمة.. الحمد لله..الحمد لله.. جدتي مامعنى الحي القيوم والصمد؟
كان لعودة جدتي إلينا وكلامها أثر كبير في مداواة جراحي وعودة ثقتي بنفسي واحترامي لذاتي بعد ما أصابني ما أصابني من تجريح وتقريع من الجميع.. ياالله ما أعدلك وما أنصفك للمظاليم، فانصفني يارباه من زوجة أبي التي لاتخافك بي إنك على كل شيء قدير..
45
تكلمت جدتيكلاما جميلا وهي تشرح لي معنى الصمد والحي القيوم ولكنني لم أفهم أكثره.. مازال استيعابي للمعاني الصعبة ضعيفًا و قلت لها بأنني أحفظ سورة الإخلاص وآية الكرسي فسهل الأمر عليها وراحت تشرح لي المعاني على قدر ماتعرف.. قالت: إن سورة الإخلاص (قل هو الله أحد *الله الصمد *لم يلد *ولم يولد*ولم يكن له كفوًا أحد*) تعادل ثلث القرآن.. ياااه سورة صغيرة لاتتجاوز السطر تعادل ثلث القرآن؟ سبحان الله كم لهذه السورة من فضل عند الله، وقالت أيضًا: ثبت في حديث أن رجلا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركوع قال: اللهم لك الحمد، أنت الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الذي قال بهذه المقالة أو دعا بهذه الدعوة؟ فقال الرجل: أنا فقال: لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى ..
سبحانك ربي عزَّ شأنك لم أكن أعرف أن اسم الله الأعظم في هذه السورة.. سأدعوه بها أن يفرِّج عني همومي وأن يسعد أمي المسكينة التي طلقت وهي صغيرة في الثامنة عشرة من العمر.. نعم سأفعل ذلك بإذن الله وسأتوجه إلى الله الفرد الصمد بالدعاء، والصمد كما قالت جدتي نقلا عن العلماء المفسرين: الصمد التي تصمد إليه القلوب الذي يجب أن يكون إلاها، يعني التوجه إليه وحده فكرًا وقلبًا وجسدًا. وكما قربت لي المعنى فقالت: إن الكفار كانوا يصمدون إلى أصنامهم وهم يتعبدونها أي يتوجهون إليها..
وفسر الصمد بأنه السيد الذي انتهى سؤدده، ولا شك أن هذا وصف لله سبحانه وتعالى أنه السيد. فهمت بعض ماقالته جدتي وعندما أكبر سأفهم القول كله بإذن الله..
46
قال جدي عندما سألتُ جدتي عن الحي القيوم: “الحي القيوم ياسحاب هو من أسماء الله الحسنى، وهي كثيرة، ومعنى الحي: الذي يدوم وجوده ، فلايموت مثل الناس الذين يموتون بانتهاء أعمارهم، وإنما لم يزل الله سبحانه وتعالى موجودًا ولايزال موجودًا، فليس شيء قبله وليس شيء بعده.. والقيوم ياابنتي هو القائم الدائم بلازوال، قال الله تعالى في آية الكرسي في سورة البقرة( الله لاإله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولانوم ).. فنفي السَّنَة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته، والحي القيوم مذكورة في القرآن في ثلاث سور.. في سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه.
سألته مامعنى القيوم؟
أجاب: يدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم.
قلت له: دوختني ياجدو مامعنى هذا الكلام ؟
فقال : سأقرب لك المعنى: هذا الكلام يدل أيضا على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود”…
سألت جدي وكيف لي ألا أموت ياجدي فأنا أريد أبقى مدى الحياة حية؟
ابتسم جدي فبانت أسنانه والفراغ مشوهًا لها بعد أن خلع بعضًا منها ثم قال لي بهدوء: كل إنسان سيموت ياابنتي، هكذا أراد الله عزَّ وجل الذي خلقنا في الدنيا لنعبده ولنتقرب إليه بفعل الخير، ثم نموت ويبعثنا يوم القيامة للحساب، فمن عمل خيرًا يجده محضرًا له، ومن عمل شرًا يجده محضرًا له أيضًا، ولايظلم ربك أحدًا، ثم يجزى بأعماله فإما أن يدخل الجنة، وإما والعياذ بالله فمصيره النار.. وأنا أسمع كلام جدي أحسست برعشة تنتاب جسدي الصغير والخوف يقفز في صدري فقلت لجدي:
– لاأريد دخول النار ياجدي ا دع الله أن يدخلني الجنة..
ضحك جدي وهو يقول: لايستطيع أحد أن يشفع لأحد وإنما أعمالك الحسنة هي التي تدخلك الجنة، وتمنعك من النار.
فسألته كيف ياجدي؟
أجابني: أن يكون إيمانك بالله سليمًا صحيحًا صادقا وأن تؤمني بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر بخيره وشره.
سألته: هذا فقط؟
أجاب: وأن تقومي بما أمرنا به من عبادات، وتنتهي عما نهانا عنه.
فسألته : بماأمرنا الله ياجدي؟
قال: بالصلاة والصوم والزكاة والصيام وحج البيت من استطاع إليه سبيلا..
فقلت له بسيطة سأعمل بها ياجدي بإذن الله لأدخل الجنة وألتقي فيها مع أمي وأبي معًا وتكون أنت وجدتي وكل من أحب معنا أيضا.
وعندما أويت إلى فراشي سألت نفسي مامعنى الحي القيوم ؟
47
مضى وقتٌ طويل لم أكتب فيه مذكرات، خاصة بعد أن عدت للعيش مع أبي وزوجته عندما انتقلوا إلى بيتهم الجديد، فقد مررت بظروف نفسية جعلتني أبتعد عن أوراقي الصغيرة، فهجرتها دون رحمة كقلب الظالمين من الناس.. أحس بأن هذه الأوراق هي شيء غالٍ يحدثني وأحدثه.. أرمي في صدره كل مالا أستطيع البوح به للآخرين، فيظل أمينًا لايشي بي لأحد..أبكي فوق سطورها وأضحك عبر كلماتها وأسجل ماأراه من مشاهدات، وما أزوره من معالم أثرية، وما أتعلمه من أمورعلمية وحياتية، وعندما أعود إليها مرة أخرى أجدها حياة عامرة بكل ماللناس من شؤون.. لم أكن أتوقع أن تكون مذكراتي هامة بالنسبة لي إلى هذا الحد، الذي أدهشني عندما عدت إليها اليوم، ولكم تمنيت أن أسترجع مذكراتي التي سلبتني إياها زوجة أبي.. على أية حال فالمذكرات مازالت موجودة عندها فهي لم تمزقها لأنني لم أر بقايا الأوراق في صندوق القمامة.. ياللقسوة أيعقل أن تلقى مذكراتي في صندوق القمامة ؟ أليس هناك احترام لحياة الإنسان بكل تفاصيلها حتى لو كانت مذكرات؟ أوليست سجلا لحياة عاشها ومنها يتعلم الآخرون؟ ولكن مابالي أتحدث عن نفسي وعن مذكراتي وكأني شخصية مهمة؟ ياااه كم الإنسان هو محب لنفسه لدرجة الغرور، ولكنني لست مغرورة أبدًا، ولاأدري كيف سيتفق الغرور مع من هو مقهور؟ أنا مقهورة في هذه الحياة،مقهورة جدًا، ولولا إيماني بالله، وثقتي بعطفه، وأنه يكفيني كل الدنيا وما فيها لمتُّ حسرة وألما..
48
في رمضان شعرت بأنني أولد من جديد فقد راح الجميع يهتمون بي حتى زوجة أبي، فقد تغيرت معاملتها لي، ولم تعد تتعبني بأعمال البيت بل جعلت العمل موزعًا علينا نحن الثلاث، هي وأنا وسها.. فشعرت بقيمة هذا الشهر المبارك، وسأظل ماحييت أحتفظ له بالمحبة والتقدير.. ليت أيامنا كلها رمضان، ففيه كثرت العبادة من صوم وصلاة وقيام ليل وتهجد، وكنت أذهب وسها برفقة أمنا إلى المسجد القريب من بيتنا، فنصلي هناك التراويح في القسم الخاص بالنساء بينما تضع الصغير سامح عند والدتها العجوز ريثما نعود من التراويح..
لقد انتظمت زوجة أبي في الصلاة، فلم تعد تؤخر فرضًا أو تتركه، وكانت توقظني للسحور، وتطعمني كثيرًا كي لاأحس بالجوع.. ولم تعد تنظر إلي بكبر ولاكراهية، وكانت تقرأ القرآن وتطلب منا ذلك، سبحان الله مغير الأحوال وهادي البشر لما يحب ويرضى.. سألت أبي ذات وقت: لماذا يسمى رمضان شهر القرآن ؟
أجابني: لأن القرآن الكريم نزل على رسولنا الحبيب عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر المبارك، وفيه تكثر قراءته وكلما ازداد المؤمن منه قراءة وتفكرًا فيه وتدبرًا ازدادت حسناته..
فقلت: ياالله ماأنفع القرآن ورمضان لنا.
قال: شهر رمضان ياابنتي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار .
فسألته مامعنى عتق من النار ياأبي ؟
فأجاب: سأضرب لك مثلا كي تفهمي المعنى ياسحاب قرأته ذات يوم من كتاب لم اعد أذكر اسمه.. مثلا لو كان عندك عبدٌ اشتريته بمالك الخاص، وليس لأحد عليه سلطة غيرك أنت التي تأمرينه وتنهينه، وإن خالفك أدبته بالضرب أو بالحرمان مما يحب، فأنت حرة لأنه ملك لك، وجاء يوم أن أحسن هذا العبد فلم يخالفك بشيء فكان طيبًا مجيبًا لكل طلباتك وزاد في ذلك أعمالا حسنة، فكافأته بأن أطلقت حريته وقلت له: أنت حر لقد أعتقتك في سبيل الله فاذهب فأنت طليق.. وهكذا يعتقنا الله من النار عندما نكون كما يحب ويريد، فيحررنا من النار، ويعتق رقابنا منها فيطلقنا إلى جنات النعيم
49
كنت وأنا صغيرة أسأل نفسي ماهو الصوم، ولماذا يصوم الناس بأمرٍ من الله ، ولماذا في شهر رمضان تحديدًا؟ لم أكن أفهم شيئًا مما يقوم به الكبار غير أنه واجب ديني لا أعرف عنه سوى تلك التقاليد المتبعة من امتناع عن الطعام من الفجر وحتى غروب الشمس، يتحملون فيه الجوع والعطش وخاصة في أيام الصيف الحارة، وذات مرة قلت لجدتي الصائمة عندما كانت تشكو من ألم شديدٍ في رأسها، ولم تستطع تناول حبة من الدواء لتسكينه قلت لها: ادخلي الغرفة ياجدتي، وأغلقي النوافذ والباب، فتظلم الغرفة قبل الغروب وعندها تناولي حبة الدواء فيشفى رأسك من الصداع ..
يومها ضحكت جدتي حتى سمع صوت ضحكتها جدي الذي كان يسقي الزهور في الشرفة، فأسرع سعيدًا ليشاركها فرحتها ظنَّا منه بأنَّها قد شفيت من وجع الرأسِ، وعندما علم السبب ضمني إلى صدره ضاحكًا، وراح يشرح لي ماكنت أجهله عن الصوم ووقته.
قال جدي: ياسحاب لقد خلق الله الإنسان وهذا المخلوق الإنساني مثلي أنا ومثلك ومثل جدتك خلقنا روحًا وجسدا، فالروح سامية نقية دائما تشد إلى الطاعة والعبادة والرقي، أما الجسد فيظل ملتصقًا بالأرض، ويمشي عليها فيسعى وراء الشهوات من الطعام والزينة والنساء وغير ذلك ..
سألته: ولكن لماذا نصوم ياجدي؟
قال : مايجب أن تعرفيه لتفرقي بين العبادة لله سبحانه وتعالى، والعادة التي ترين الناس قد تعودوا عليها في الصوم من جوع وعطش . حاشا الله عز وجل ياابنتي أن يكون المراد من الصيام هو تجويعنا وتعطيشنا وإتعابنا، والله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الأم بولدها، بل إن الله قال في آخر آيات الصيام “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” (البقرة 185)
سألته- إذا ماهي الغاية من الصيام؟
أجاب- الغاية الأولى والهدف الأسمى من صيام رمضان هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله. وإعداد القلوب للخوف من الله سرا وجهرا. فالصوم يبعد القلوب عن القسوة فتصبح رقيقة شفافة وحساسة، وأيضا يجعلها تخشى الله وتراقبه في أعمالها وأفكارها.
سألته: ماذا يعني هذا؟
أجابني: يمعنى أن الصوم يوقظ القلوب من غفوتها فما فسد منها خلال وقت من الأوقات فبالإيمان والعودة إليه يرقق القلوب ويوقظها باللين وليس بالقسوة، فالإسلام دين محبة يقود الناس بالتقوى والرضى ومراقبة الله، والخشية منه، وليس بالسلاسل والضرب.
50
تابع جدي الكلام الجميل الذي جعلني أنوي الصوم، فأمسك بكتاب صغير وراح ينظر فيه ويقرأ ويشرح لي مالا أفهمه، فتحدث عن ثمرات الصيام .
سألته: وهل للصيام ثمرات تؤكل ياجدي؟
أجاب باسما: نعم له ثمرات ولكنها لاتؤكل بل هي غذاء للروح.
– مثل ماذا؟
– ”رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، “فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان”
لم أفهم ماذا يقصد جدي بهذا الكلام فطلبت منه تفسيره فقال: كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب واسترخاء العقل والكسل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
قاطعته قائلة: “ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه”
صفق لي جدي فرحا وأضاف قائلا: وقال أيضًا “إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب”، وقال الطبيب العربي المشهور: ابن كلدة “الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء”،
فسألته: ماذا يعني البطنة؟
قال: الأكل الكثير الذي يسبب الأمراض والحمية الإقلال من الطعام المضر للجسم
فقلت: الحمد لله أننا في بيتنا نعيش على الحمية ولن نمرض بسبب كثرة الطعام.
تابع حديثه دون ن ينتبه لما قلت: وقال سفيان الثوري: “إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل”.. ولذلك فان تقليل الطعام والشراب يجعل القلب نشيط وينوره ويجعل العقل أكثر وعيا ويضيق مجاري الدم التي يجري فيها الشيطان، فتهمد شهوة الجسد وينشط نور القلب، وهذا كله من فضل الله علينا بالصيام، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه” مازال جدي يتكلم بكلام لاأفهم أكثره، ولكنني عرفت لماذا نصوم والحمد لله.