كان يومًا ربيعيًا جميلا أمضيته حتى الظهر في المدرسة مع رفيقاتي.. دراسةً ولعبًا ، ولكن ثمة أمر مزعج عكَّر صفو اليوم، عندما اتُّهِمَتْ يارا الصادق، بسرقة قلم حبر وفاء سعيد الذي أهداه لها عمها صالح عندما عاد مؤخرًا من أستراليا، دخلت المديرة الصف غاضبة، وتكلمت عن الأمانة وأن السرقة حرام، وذكرتنا بالآية الكريمة التي تنص على أن السارق والسارقة يجب قطع أيديهما جزاء بما فعلا. السرقة مرض خطير يصيب ضعفاء النفوس، فيجعلهم ألعوبة بيد الشيطان الذي يزين لهم القيام بها، ويوهمهم بأن نفعًا لهم فيها مما يحصل عليه السارق من مال، أو أشياء ثمينة من الآخرين.. ورغم أنَّ القلمَ وُجِدَ في حقيبة يارا مع أقلامها، فإنها أنكرت ذلك، وقالت بأنها لاتعرف من وضع القلم في حقيبتها، وأنها بريئة، ويجب الكشف عن الفاعلة التي جعلتها عرضة للشكوك، فاتهمتها المديرة بالكذب إضافة إلى السرقة، فراحت يارا تبكي وتقسم بأنها لم ترَ القلم قبل الآن، وعندما حضرت والدة يارا باستدعاءٍ من المديرة قامت الدنيا ولم تقعد، وعلت الأصوات، وتصرف الجميع بما لايرضي عاقلا، وطالبت والدة يارا باستدعاء الشرطة لمعرفة الحقيقة وأصرت على ذلك غير أن المديرة والمشرفة استطاعتا إقناع والدة يارا بالعدول عن طلبها، وأنهما ستعملان على إعادة التحقيق، وكشف السارقة الحقيقية فسألتُ نفسي: ترى هل سيحضرون غدا الشرطة والكلاب البوليسية التي تستطيع كشف السارقة أيا كانت؟ أخافتني الفكرة فأنا لاأحب الكلاب هذه، منظرها يخيفني من بعيد فكيف إن كانت بالقرب منى؟ لكن سأغمض عيني إن أحضروها إلى المدرسة ، المهم الآن أن نعرف السارقة الحقيقية.
32
في منزل جدتي كانت أمي مشغولة بضيوف جدتي هذا اليوم، فوقفت مع الخادمة نوريني في المطبخ بعض الوقت حيث راحت تحدثني عن أخواتها الصغار وتقول بأنها اشتاقت لهن ولوالديها كثيرًا، وأنها سعيدة لأنها ستذهب إليهم بعد شهر ونصف لأن مدة العمل التي جاءت من أجلها قد شارفت على الانتهاء.. كانت طنجرة بخار كبيرة فوق النار، فحملتني نوريني وأرتني مابداخلها.. كان فيها كثيرٌ من العظام وقطع اللحم الكبيرة، ولكن نوريني قالت بأن هذه عظام ابنة خالتي تالا فقد ذبحوها اليوم، وسنأكلها مع الفريكة عندما تنضج، وقالت بأن دوري بذلك سيكون غدً.. خفت، أفلتت من يديها وأنا أصرخ من الخوف، دخلت إلى حيث خالتي ربى تجلس أمام التلفاز، وألقيت بنفسي في حضنها وأنا أرتجف.. سألتني عما بي فقلت لها: لاأريد أن تذبحوني كما فعلتم بتالا ثم تسلقون عظامي وتأكلونني مع الفريكة.
انتفضت خالتي بغضب وسألتني: من قال لك ذلك؟
أجبتها: نوريني وأرتني العظام في الطنجرة، لماذا ذبحتم تالا، أريد أن أذهب إلى بيت أبي..
أمسكت خالتي بيدي ودخلت بي إلى المطبخ حيث كانت نوريني تغسل الصحون، سألتها: كيف تقولين لسحاب هذا الكلام؟ هل جننتِ؟
أجابتها بلكنتها الأجنبية: كنت أمازحها ولكنها صدقت.
صرخت خالتي بها: أتريدين أن تصاب الفتاة بالجنون، ساعة تكلمين الصغار عن الجن فتلقين الخوف في قلوبهم، وساعة عن مصاص الدماء واليوم تتهميننا بذبح تالا، مابك لماذا تخالفين تعليماتنا لك بألا تتحدثي مع الصغار بما يخيفهم. لم تقل شيئًا وراحت تضحك بصوت عال وهي تنظر إلى فألتصق بخالتي ونوريني تقول لي: اتريدين رؤية العظام في الطنجرة؟ فاقتربت خالتي منها وصفعتها على وجهها، فازدادت ضحكا، وأنا أمسح عن وجهي دموع الخوف الذي سيطر علي، رغم أني ضمنيًا لم أقتنع بما قالته نوريني، ولكنه أحدث في نفسي قلقًا ذكرني بالرجل الذي أراه في المنام يطارني وبيده السكين..
33
ذهبت زوجة أبي إلى بيت أهلها بزيارة خاصة، وتركتني مع أخي سامح مصطحبة معها سها وهدى.. كان سامح لطيفًا طوال مدة غياب أمه، وكنت ألاعبه، وأعطي له البيبرونة فيرضع منها الحليب الذي وضعته له قبل ذهابها.. لم أشعر بالوحشة وأنا مع سامح، ولكني كنت مشغولة الفكر بشأن مذكراتي التي أخفتها عني في خزانتها في غرفة نومها وأبي، فقررت البحث عنها مستغلة فرصة غيابها عن البيت، فهذا حقي، فأنا أحس بأن مذكراتي جزء هام مني بعد أن أخرجتها من نفسي، ووضعتها فوق الورق، ليس من حقها أن تأخذها مني ..كانت غرفتها مغلقة، فتحت الباب واتجهت نحو الخزانة.. فتشت فيها، لم أجد شيئًا، فأحضرت كرسيا، ووقفت فوقه لأبحث عن دفتري فوق رفوفها، فوجدته تحت بعض الملابس المطوية، تناولته سريعًا، وأعدت الكرسي إلى مكانه، وأغلقت الخزانة وباب الغرفة، وأسرعت إلى غرفتي لأخفي فيها الدفتر الحبيب، ولكن فضولي جعلني أفتح الدفتر، وأقرأ فيه بعض المذكرات، فخطر ببالي أن أنقلها على أوراق خاصة، وأعيد الدفتر إلى الخزانة قبل أن تعود خالتي إلى البيت، فما زال الوقت مبكرًا لعودتها.. ساعدني في إتمام النقل نوم الصغير سامح، فأخفيت الأوراق هذه المرة داخل الفرشة التي أنام فوقها، وذهبت إلى غرفة خالتي لأعيد الدفتر، وقبل أن أغلق باب الخزانة فوجئتُ بها أمامي ..
34
أحسست بشعر رأسي يصل السقف مقشعرًا، وصوت مدوّ ينفجر في جمجمتي الصغيرة، فسَرَتْ البرودةُ في جسمي رغم تصبب العرق من جبيني، بينما تجمدت عيناي شاخصة في وجهها للحظات، ثم أحنت جفونها مطرقةً أرضًا .
أيقنتُ بأنني في موقف حرج، ولكن حرجه شتت فكري بهول المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أبدًا، ولاأدري ماالذي أتى بها قبل الموعد المحدد، فقد كان من المقرر أن يحضرها أبي عندما يعود من مكتبه..
رفعت نظري قليلا صوب يديها فوجدتهما متباعدتي الأصابع، وكأنهما قد تجمدتا في ثلاجة البيت كأصابع الدجاجة التي لا أحب أن أراها مذبوحة ينتف ريشها و يقطع رأسها فتغمض عينيها الصغيرتين جدا وهي ميتة لاحول لها ولاقوة، تواردت الخواطر الدجاجية المثلجة وكأن ذلك ينقصني.. سألت نفسي لماذا تجمدت أصابعها؟ فأجبتني: ربما لتصبح قاسية كالعصا فتصفعني بها فتوجعني.. وأنا أنظر إلي يديها رأيت اليمنى ترتفع قليلا فلحقتْ بها عيوني رغما عني بدافع حب الفضول الممتزج بالخوف من العقاب الذي مازال مجهولا بالنسبة لي، رغم قناعتي بأنني لم أقم بشيء لايحق لي القيام به، فرأيتها تضعها فوق أنفها، وتحكه بسبَّابتها حكًا متواصلا حتى ظننت بأنها ستقتلعه من وجهها ، فيصبح منظرها أكثر مناسبة لإرهابي كما يفعلون بأفلام الرعب عندما يدخل مجرم لسرقةٍ، أولقتلٍ كما رأيت ذلك في فيلم ذات مساء، فعاقبني والدي بعد ذلك بحرماني أسبوعًا من رؤية التلفاز، وأخبرني أنه لايحق لي رؤية أفلام الرعب التي تتعب الأعصاب، وتشوه تفكير الأطفال، فتوجههم نحو الجريمة، وتزرع في نفوسهم عقدًا من الصعب اقتلاعها منها، أين أنت ياأبي لترى ابنتك الآن في فيلم رعب حقيقي؟
أعلم أنك لا تسمعني، فأطرقتُ أرضًا من جديد بانتظار ماسيحدث بعد لحظات ..
53
سبحان الله كيف يطوف الفكر بنا في اتجهات مختلفة خلال لحظات قليلة، فنظنها ساعات وأحيانًا أياماً وسنوات.. هذا ماحدث لي وأنا أسيرة ورطتي المخيفة بفتح خزانة زوجة أبي أثناء غيابها عن البيت.. ربما شعرت بذلك لوجود هاجس في نفسي، يشعرني بأني لست ابنتها، ولايحق لي فتح خزانتها، ولوأنني كنت ابنتها فلن أ شعر بما أحس به الآن.. ماذا يعني أن تفتح البنت خزانة أمها، وتطلع على مابداخلها إن كانت الأم لاترفض ذلك؟ أنا أفتح خزانة أمي في بيت جدتي، وأرى ثيابها ومصاغها، ولم تنتقدني يومًا من أجل ذلك.. ترى هل ما أحس به سببه توبيخ الضمير لأنني قمت باستعادة مذكراتي بطريقة غير مشروعة؟ ربما هذا الأمر له تأثير أكيد فأنا أقرُّبأنني أخطأت، وأعترف بجبني لأنه كان علي أن أواجه المشكلة معها بما لايجعلني ضعيفة أمامها، بل أطالب بحقي في الاحتفاظ بمذكراتي الخاصة أعجبها ذلك أم لم يعجبها.. رفعت نظري عن الأرض محاولة رؤية يديها فلم أجد أحدًا أمامي ..أين ذهب ؟ فتشت في الغرفة فلم أجدها.. خرجت إلى غرفة الجلوس فلم أجد أحدًا فيها.. كان سامح مازال نائمًا.. ناديت: أمي ..أمي ..أين أنت؟ لم أسمع جوابًا.. حرت في أمري فعدت إلى غرفتها وأغلقت الخزانة وباب الغرفة وأسرعت إلى الهاتف في غرفة الجلوس.. طلبت أبي.. رد علي.. سألته برجاء أن يعود إلى البيت سريعًا، فأخبرني أنه قادم مع خالتي بعد أن أحضرها من بيت أهلها.. كدت أجن فزعًا فذهبت إلى المطبخ لشرب كأس من الماء ..كان الماء باردًا جدًا.. شربت مافي الكأس كله دفعة واحدة فشرقت به ورحت أسعل بشدة ومازلت أسعل وأنا أحس اختناقًا.. يشتد شعوري بالاختناق أكثر وأكثر فأصرخ بصوت عالٍ أبي.. أبي.. أفتح عيني فأجد أبي فوق رأسي يتلو سورة الفلق ..
36
طلبت من والدي أن يأخذني خارج البيت لحاجتي للانفراد به، والتحدث معه بحرية دون مراقبة عينَيْ وأذنَيْ زوجته لكل حركة وكلمة تصدر مني.. ونحن في الطريق سألني: إلى أين تريدين الذهاب؟ فقلت له وأنا أتكمش بيده :إلى أي مكان في الدنيا يشعرني بالسعادة معك.. دعنا نمشِ في الشوارع..نتفرج على الناس، وعلى المحلات التجارية الممتلئة بالبضائع الجميلة منها غالي الثمن ومنها دون ذلك ..
وافقني أبي وبقينا نمشي من شارع إلى آخر حتى أحسست بالتعب والجوع، وكنا قد وصلنا سوق مدحت باشا أحد أسواق دمشق القديمة فقال لي والدي: سأصطحبك الآن إلى مكان لاتعرفينه، وهناك مفاجآت كثيرة فيه. ومضى يقطع بي سوق البزورية، فشممت رائحة البهارات والعطور، وشاهدت الكثير من أنواع السكاكر، وقمر الدين،والشموع الساحرة،ومحلات الصاغة التي تضم أجمل المشغولات الذهبية، ومحلات الملابس الشعبية القديمة، وفيها محلات لبيع الفاكهة المجففة التي أحبها جدا، فاشترى لي علبة فيها من كل أنواع الفاكهة، وقبل أن نصل إلى الجامع الأموي أدخلني بابًا كبيرًا لبناء أثري عرفني عليه قائلا: هنا قصر العظم ستشاهدين فيه الآن مايدهشك.. دفع أبي بعض النقود للموظف المسؤول عن دخول الزواروالسياح إلى القصر.. أول مالفت نظري هنا الأواني النحاسية الكبيرة جدا التي كان القدماء يسكبون فيها الطعام في الحفلات والولائم، والصناديق الخشبية والحديدية المعروضة في مدخل القصر التي كانوا يضعون فيها الألبسة والأشياء الثمينة، ثم دخلنا دارا واسعة فيها الكثير مما يشبه الخيال، سبحت الله وأنا أرى الشمس تعانق أشجار النارنج والكباد، والعصافير تملأ الأجواء زقزقة وتغريدا.
قال والدي :قصرالعظم يابنتي: هو أحد أهم معالم دمشق القديمة. سألته بإعجاب:
من بنى هذا القصر ياأبي؟
أجاب: بناه أسعد باشا العظم، والي دمشق عام 1749، وقد استعان في بنائه بأمهر الصناع والعمال في دمشق.
سألته: كم استغرق بناؤه؟
– يقال بأنه استغرق ثلاث سنوات.
سألته: ومن سكن البيت الكبير هذا؟
أجاب: سكنه أسعد باشا العظم وأسرته ومن شاء لهم الحياة معه.
سألته وهل دام لهم مدى الحياة؟
أجاب: لا ياسحاب فقد اتخذه المفوض السامي الفرنسي مقراً لإقامته في بداية الاحتلال 1920.
سألته: ولماذا أخرجوا أهله منه؟
قال: يقال بأن الحكومة الفرنسية اشترته من ورثته وحولته إلى معهد للدراسات العلمية.
سألته: وهل ظل القصر محافظا على بنائه كما كان في بدايته؟
أجاب: لا، فقد تعرض لأضرار كبيرة خلال القصف الفرنسي لدمشق إبان الثورة السورية عام 1925، وتم ترميمه بعد ذلك.
– ترميمه؟ ماذا يعني ترميمه؟
قال ضاحكا: يعني إصلاحه .
– ولمن هو اليوم ياأبي؟
أجاب: بعد الاستقلال تحول عام 1954 إلى متحف للتقاليد الشعبية.
قلت : ماأجمل هذا المكان البديع!
– يعد هذا القصر أنموذجاً للبناء الشامي القديم، وهو من أهم مقاصد السياح في دمشق.
قلت وأنا أشعر بالزهو: أنا أحبك كثيرًا لأنك والدي ولأنك أحضرتني إلى هنا ..
ضحك أبي سعيدًا وأنا أنفلت من يده، وأركض في بهو حديقة القصر الفسيحة فأكاد أطير من البهجة، وأحلق مع اليمام والعصافير التي كانت تغرد فوق الأشجار.. صدق أبي عندما قال لي بأن هذا القصر هو أنموذج مدهش للبيت الدمشقي القديم، حيث يشعر فيه المرء بالانشراح والسرور لما يحوي من الحجارة الجميلة، التي تتشابه مع البيوت القديمة بما فيها من الرخام الملون، والأزهار المختلفة، وبحيرة صغيرة تتدفق فيها المياة من نافورتها التي تتوسط باحة البيت.
قال أبي: كان على مدرستكم أن تأتي بطلابها إلى هنا لتريهم القصر الذي أصبح الآن متحفا للفنون والتقاليد الشعبية.
ليت بيوتنا اليوم تعود مثل هذا القصر بحديقته، وأشجارها ونافورة المياه التي تغدق في البحرة الصغيرة.. ما أجمل الحياة في هذا البيت.. اقتربت من الماء ورحت أغسل به يدي ووجهي، وأبي يبتسم لي وأنا أرشقه بالماء البارد ..
قلت له: أحس عطشا أأشرب من ماء النوفرة، فنهاني عن الشرب منها، واصطحبني إلى مكان خاص بماء الشرب، فشربت حتى ارتويت، ثم تابعنا زيارتنا للقصر ..
قال لي: انظري ياسحاب إلى اتساع المساحة هنا، ويعتقد أن مساحته الاصلية كانت تفوق ذلك، ولاندري ماالذي غيرها، يتالف القصر من ثلاثة أقسام حسب التقليد الدمشقى العريق، وهى السلملك، والحرملك، والخدملك.
فهم أبي ماأصابني فقال، السلملك هو المكان المخصص للرجال، والحرملك للنساء والخدملك للخدم، اضكحي الآن فأنا سعيد بسعادتك، ولن أنسى فهناك أيضا الحمَّام والمرآب، فرحنا نشاهدها قسما قسما. وقبل مغادرة البيت قلت لوالدي: أريد قصرا مثله.
فانفجر هو هذه المرة ضاحكا.
37
عندما علمت زوجة أبي بزيارتنا لقصر العظم، كادت تفقد صوابها، فراحت تصرخ بأبي بصوت عالٍ، وتتهمه بحبه لي أكثر منها ومن أولادها.. حاول تهدئتها في بادئ الأمر، ولكنها كانت تزداد غضبًا كلما ازداد هو تواضعًا ومسايرة لها، إلى أن فقد القدرة على متابعة الصبر على ماتتلفظ به من كلام أكثره جارح ومهين لرجولته، فوقف بوجهها محاولا إخافتها، فازداد الأمر بينهما سوءً، فشعرت بالذنب تجاههما، وبأني السبب فيما يحدث بينهما من شجار فدخلت غرفتي وأنا أبكي حزنًا على أبي، وعلى نفسي التي رحت ألومها على أنها تشعر بالضيق مما تتعرض لها من مضايقات.. مضى اليوم ولكن ليس كأي يومٍ آخر فيه تجرعت القلق والحزن والخوف من انتقام زوجة أبي مني، ومنعًا لذلك اصطحبني والدي إلى بيت جدتي التي راحت تدافع عني، وعن حرية أبي ضد زوجته، وتقول له بأنه حرٌّ، وليس لزوجته سلطة تمنعه من فعل مايشاء، ودعته لإخافتها بإظهار القوة كما كان يفعل مع أمي، وقالت جدتي كلمة جميلة بحق والدتي المطلقة منه، جعلتني أحس بالحنين إليها وحاجتي لأن أكون بالقرب منها في مثل هذه الظروف، قالت له بالحرف الواحد: ذكر الله أم سحاب بالخير، فقد كانت مؤدبة وصبورة، ولاتقول إلا مايرضي الله، وما سمعنا لها يومًا صوتًا عاليًا بغضب أو بفرح، فتدفقت دموعي بغزارة وسألت جدتي عن الأسباب التي سببت الطلاق بين أبي وأمي فصمتت ولم تجبني.
38
انزويت هذه الليلة في غرفة عمي بعيدًا عن الجميع، وأنا أبكي بحرقة، وأسأل الله أن يفرِّج عني ما أعاني من مشاكل، فالقهر يحيط بي من كل جانب، فما أن أرتاح قليلا من ظلم زوجة أبي لي، حتى أحاصر بتحكم أهل أبي بأموري كلها، فلا يتركون لي فرصة أتمسك بها بيدي سعادة عابرة تمر بي.. قبل أيام كنت في زيارة لأمي وتمنيت البقاء معها دائما، ولكن كلمتني ابنة عمتي هاتفيًا للعودة إلى بيت جدتي لأبي، اعتذرت منها وطلبت أن أبقى يومًا آخربقرب أمي وخالاتي وجدتي وجدي، الذين يضعونني في عيونهم، ولن أنسى الرحلة التي اصطحبتني بها جدتي إلى حارات دمشق القديمة، وقد سجلتـْها جميعًا بفيديو الموبايل، وأدخلتني إلى مطعم شهير للبيتزا فأكلت منها بنهم، ووعدتني بشراء ثيابٍ جميلة في غير يوم العطلة الأسبوعية.. كانت أمي تسألني عن أحوالي المعيشية في بيت أبي، فأحكي لها ماأعانيه من قسوة زوجته وكيف تعاملني بغير ما تعامل به أولادها، حتى في الطعام والملبس وأشغال البيت، فكانت تحزن علي كثيرًا، وأحيانًا تبكي بحرقة. وعندما عدت إلى بيت جدتي حاول الجميع استجوابي عما تسألني أمي وأهلها، وعما أشاهده في بيت جدي، فقلت لهم ذلك تحت التهديد بحرماني من رؤية أمي إن أنا كذبت عليهم، أو أخفيت شيئًا مما سمعت ورأيت عندهم، فكانت أجوبتي عن أسئلتهم سببًا بمنعي من حضور حفلة خطوبة خالتي رجوى ..
39
سهرت هذه الليلة ودمعتي تلوب بين جفوني، فلا أنا قادرة على إطلاق سراحها، ولاأنا قادرة على حبسها في عينيَّ تحرقهما.. جلست أفكر بحفلة الخطوبة والعروس خالتي رجوى التي أحبها كثيرًا، فهي تهتم بي عندما أكون في بيت جدتي، وهي التي تواسيني عندما تجدني حزينة وتعمل على إخراجي من دائرة الكآبة التي تحيط بي في بعض الأحيان، فتنتشلني من بين أنيابها المفترسة.. صحيح هل للكآبة أنياب مفترسة كالليث والنمر والفهد والضبع؟..
آه كم أحب رؤية هذه الحيوانات عن قرب، سأطلب من أبي أن يأخذني إلى حديقة الحيوانات لمشاهدتها، سيكون ذلك جميلا جدا، ياااه نسيت بأن زوجة أبي ستمنعه من ذلك، حسنًا سأطلب من أمي أو جدتي الذهاب بي إلى حديقة الحيوانات.. أمي الآن وجدتي وخالاتي سعداء بخطوبة خالتي رجوى وأنا حزينة.. هم يغنون ويرقصون، وأنا أحترق بصمت.. جدتي لأبي ترفض أن أذهب لحضور الحفلة بتحريض من والدي الذي أقنعته زوجته بأن أهل أمي يستجوبوني لمعرفة أسرار حياتي في بيتها، على كل أنا لم أكذب بما قلت، فهي وأبي يخبراني بأن في سقف البيت الخشبي أفعى نسمع خشخشة حركاتها في الليل عندما نطفئ النور في غرفة النوم في بيتنا الجديد الذي انتقلنا إليه مؤخرًا، وهو عبارة عن غرفة واحدة ننام فيها جميعًا، ونستقبل فيها الضيوف أيضًا.. حالة والدي المادية أصبحت سيئة جدا في الآونة الأخيرة، ولم يعد يأتي إلى البيت في فترة الظهيرة لانشغاله في دكانه الذي يبيع فيه، ويتناول غداءه عند جدتي فبيتها قريب من مكان عمله، وتذهب زوجته لتأكل عند أمها، وأبقى أنا وسها في البيت، وغالبًا مايكون طعامنا سندويشة واحدة طوال اليوم، وكل يوم تطلب مني أمي النوم قبل وصول أبي، فأسألها أن تعطيني بعض الخبز لإسكات الجوع فتقول بأنه ليس في البيت خبز، وعندما يعود أبي سيحضر معه الخبز، ولكنني أنام قبل قدومه خوفًا من الأفعى، وعندما أصحو من النوم والجوع يعض معدتي أسمع صوت خشخشة الأفعى في السقف والنور مطفأ، فأدفن رأسي تحت المخدة خشية سقوطها فوقه فتعضني هي الأخرى..
40
ماأصعب الهم عندما يسكن في قلب طفلة صغيرة مثلي، يحرمها العيش الهني، ويلون أيامها بالسواد.. عندما أرى قوس قزح أنظر إليه بإعجاب، وأغبطه على ألوانه الجميلة، وأتمنى أن تعشعش في قلبي فتنير حياتي بالجمال، الأخضر والبرتقالي والأصفر والأزرق ألوان أحبها مثل البوظة المشكلة الألوان بالكيوي، والحليب، والشوكولا، والأناناس، والمانجا.. عندما يصبح معي نقودٌ سأشتري فستانا بألون قوس قزح، ولن أترك البوظة تسقط عليه، وأنا أتناولها من البوري البسكويتي اللذيذ، سيكون الفستان جميلا بلا شك..
ياالله لاأدري لماذا كُتب علي الحزن والحرمان، وما الذي يعجبه بقلبي الصغير الذي لايستطيع مقاومة أسنانه الطويلة، وفمه الواسع، فيلوكني بهمه دون رحمة، فلايشفق علي كخالتي زوجة أبي..أحيانا أراها بشعة.. مخيفة كالضبع الذي رأيته محنطًا في أحد معارض الحيوانات بالقرب من سوق الحميدية.. أنا لاأحب الضبع قال لي أبي عنه بأنه خبيث، ونتن.. أين أنت ياأمي ليتك تأخذيني، وتدفنيني في صدرك الدافئ الحنون فترتوي عظامي دفئًا، فلا أحس ببرد الغربة عنك.. ليتهم لم يسلخوني عن صدرك فشبعت منك حليبًا يسعف جوعي عندما أطلب طعامًا فلا أجده.. أتراني أخطأت عندما أخبرتهم بأنني قلت لك كل شيء عن حياتي معهم؟ أنبتني جدتي كثيرًا، فقلت لها لقد أصابك الخـَرَفُ ياجدتي.. فجن جنونها، وقامت الدنيا فوق رأسي ولم تقعد.. اتهم الجميع أمي، وأهلها بأنهم يقولون ذلك عن جدتي.. أقسمت لهم بالله بأن أمي لم تذكر ذلك يومًا، لم يصدقني أحد، وحاربني والدي ثلاثة أيام دون أن يكلمني أو ينظر إلي، فازددت همًا فوق همٍّ.. سألت نفسي هل سأظل أسيرة ظلمهم العمرَ كله؟
لم أجد جوابًا ولكنني على أيةِ حال سأنام الآن، وقد بيَّت أمرًا سأنفذه في الغد بإذن الله .
سررت جدا بالعودة لمذكرات سحاب
التي نشرت عام 2011
شكرا لمن ذكروني بها فقد وجدت رابطها مع الروابط التي
زارها القراء اليوم في مدونتي.
مريم” زاهية” بتوول
LikeLike