Mryam M.Y

Just another WordPress.com weblog

لا تحزن…(2)

8

\\

\\

 

في ليلِ لحظة منسيةٍ من عمر وقتي كنت أسير وحدي في غربة نفسي عن نفسي، والأرض تميد بي وأنا أتَّكئ على عكاز أملٍ هارب لم أستطع القبض عليه رغم طويل عناء في محاولةٍ للحاق به، واستنشاق ِأثير الحرية من كبت لاأدري مصدره، ولا متى أو كيف سكن غرفاتِ نفسي فسرى بها في دهاليز تفوح فيها رائحة كآبة مزعجة، بينما كان قلبي يتخبط بظلامِ ليلٍ موحش الخطو يقبع في رأس أحلامٍ مشوشةِ الرؤية فيُغِم عليها عيونَ الطريق. كل ماحولي يكتسي القتامَ بانزواء فكري في ركن مهجورتملأه طحالب الصمت وملح الرطوبة. ضجَّت رأسي بصراخ خوفي في غياهب جبِّ المجهول، فأيقظ فيَّ إحساسي المتهالك فوق حرِّ الرمل في هجير التشرد. أمي، أبي، إخوتي ، أخواتي، أصدقائي، هلموا إلي، اغتالوا وحدتي بسيف اللقاء والْتمام الشمل، وحيدٌ أنا تنهش قلبي وحوش الفراغ بنهم مريع، أنادي وأنادي، أمي لاترد عليَّ، حبسها عني العذر بانشغالها بالبيت، ووالدي بالعمل، والبقية كل بهمٍّ يفتك به شأنَ الوحدة معي. أجدني مقيدًا بضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنفر من نفسي، أمقتها لبعض وقت، تحتد احتجاجا وتجمح بالثورة ضدي، تؤلِّبُني على كلِّ مَن حولي وحتى عليها، أكرهُني، أحاول اغتيالي للخلاص من كوابيس تصطاد أمني بلا رحمة، وتقطف زهور حدائق قلبي الزاهية بعنف عدو ظالم.. تدوسها بأحذية قذرة غريبة لا أعرف عن محتذيها شيئا، أبكي، أتألم، ماأصعب أن يجد الإنسان نفسه وحيدا رغم كلِّ من يحيطون به، أجدهم أمواتا بالنسبة لي ، لايحسون بي ولا يرِتقون جراحي النفسية النازفة قهرًا وكرها. وحدَها هي أيضا كانت تجلس في غرفتها، لا أنيس لها من أهل البيت، تأكل مايقدم لها من طعام، وتردُّ على من يسألها شيئًا بإيماءة من رأسها، تتوضَّأ وتصلي ثم تعود إلى سريرها صامتةً إلا من همسات خفيةٍ تصاحبها في بعض الأوقات آه غريبة لاتشبه أهاتِ التألم التي تخرج حارقة من أفواه الموجوعين. ترى ألا تحسُّ مثلي بالغربة والوحدة والافتقار لأنيسٍ يبدد وحشة عمرها الذي شارف على النهاية. بهدوء وحذر اقتربت من غرفتها في الجهة الجنوبية من بيتنا الكبير اختارتها لتكون بعيدة عن الضجيج، قريبةً من شرفة الحديقة التي كانت تخرج إليها قبل صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب. فتحت الباب.. مددت رأسي الصغيرة أنظر إليها بفضولٍ هذه المرة، رأيتها تستقبلُني بابتسامة عذبه ملأت وجهها سعادةً اخترق بعضُها جدارَ رهبتي فانتشت نفسي بشيء من سرور جعلها تدعوني للاقتراب منها بإشارة من يدها ، قبلت هذه اليد التي وقَّعتْ السنون فوق جلدها بصمة التقدم في السن، فاحتضنتني بحنان كنت بحاجة ماسة له بينما راحت أصابعها تمسح برقة فوق رأسي الصغيرة، أحسست براحة تتسرب من خلالها إلى قلبي الباكي من قسوة الأيام ، وددت لو أظل في حضنها مدى العمر، هاجمتني نفسي المحاربة بشراسة تطلب تفسيرا عما حدث لي. ابتعدت عنها، وقفت أمامها مستجمعا مابقي لي من قوة والقلق يموج في داخلي ويهوج، فتصنعت الهدوء
وسألتها بصوت خفيض: جدتي ألا تشعرين بالوحدة؟
نظرت في وجهها أنتظر منها جواب امرأة عجوز، سلبتها الأيام الكثير الكثير من قدراتها الجسدية ، وأبعدت عنها أحبتها موتا أو هجرة، حدَّقتُ في عينيها بفضولِ طفولةٍ شقية ونفسٍ أمارة، للحظات كنت أتمنى أن أرى دموع الألم تنهمل منهما فأعزِّي ثائرَتي بألمها وحزنها على ماضاع منها، وعلى ماهي فيه اليوم. خيَّبتْ جدتي ظني، فرأيت بين جفونها بريقا غريبا يلمع بضياء مدهش وهي تشير لي بيدها إلى السماء ثم تضعها فوق صدرها، وابتسامة رضا تشرق فوق ثغرها المرتجف، لتزهر في قلبي فرحا يخلصني من أوهام الوحدة بإشارة من يدها المرتجفة تعيد إلي قوتي وثبات يقيني، وهي تخبرني بعجز لسانها عن النطق : إنَّ اللهَ معنا.

((لاتحزن إنَّ الله معنا))

“سبحان الله ربِّ العرش العظيم”
بقلم
زاهية بنت البحر

8 thoughts on “لا تحزن…(2)

  1. abdulkader64's avatarabdulkader64

    الاخت الكريمة / زاهية بنت البحر …
    -من أنت ..؟ وكيف أنت ..؟ وأين كنت ..؟ ومن أين أتيت ..؟
    أيعقل ان تكوني ابنة البحر حقيقة ..؟ واحدى حورياته الجميلات الساحرات …؟
    -كلماتك تكاد تكون سحرا ..لعذوبتها ورشاقتها ..وسهولة دخولها الى القلوب , وصورك متتابعة مكثفة يضج بها الخيال ..
    -أقول لك لقد ملكت زمام الكلمة , واعتليت صهوة التعبير والخيال ..
    -أنت داعية الى الله …وأي داعية ..؟ تحرك كوامن الخير في النفوس وتحرض على البحث عن الحقيقة .
    -أنت داعية بلا منابر عالية ولا جعجعات خاوية ..الا من الضجيج…
    -واقول لك : ان زهور حدائق قلبك قد أينعت ..وباشارة من يد ضعيفة حركت قلوب كل من قرأ هذه الخاطرة العجيبة ..
    فيا لقوة الضعف أحيانا ..! ويا لضغف القوة أحايينا …!!!
    -غمرتني سعادة عامرة بعد قراءة كلماتك وشعرت أنك فتحت بابا لي الى السماء ….

    – أبدعي أيتها المبدعة .., وهات من كنوز أبيك البحر ..!!!

    – أعطاك الله الصحة والعمر المديد ..ودمت في طاعة الله وأنس قربه ..فمن شعر بالانس مع الله لا حاجة له الى ضجيج الخلائق ..

    أخوك / م . عبدالقادر كنعان

    Like

    1. zahya12's avatarzahya12 Post author

      الأخ المكرم م. عبد القادر كنعان
      جمال ماتفضلت به لجم لسان قلمي زمنا طويلا فليس عندي ماأقوله لك سوى جزاك الله عني خير الجزاء ونفع بك أمة محمد عليه الصلاة والسلام
      أختك
      زاهية بنت البحر

      Like

  2. zahya12's avatarzahya12 Post author

    أنقل لكم تعليقا على هذه القصة وجدت فيه الفائدة لي ولم شاء من قرائي الكرام
    “قص هادف جميل”
    .
    تقابل لماح بين روحين : روح قلق يفترسه الهم الوجودي ، و روح مطمئن ينعم بالسكينة في رحاب الإيمان .
    صورة الحفيدة المقبلة على الحياة تخوض غمارها و تصارع أنواءها و انكساراتها و خيباتها و تتجرع مرارتها ، صورة الإنسان الكادح طريد الفردوس إلى دار الشقاء . و صورة الجدة النفس المطمئة المتشبعة بالإيمان ، وهي على مشارف العودة إلى بارئها الذي خاطبها في كتابه الكريم ” يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ” يحدوها الشوق إلى الفردوس الأول الأول .
    و أنا أتابع صورة الجدة على هذا النحو الذي أبدعت كاتبتنا في تصويره ، هذه الشيخوخة الناضجة التي تملأنا إعجابا و تقديرا ، وأنا أتابع هذا تذكرت ما قرأته في كتاب ” الجمهورية ” لأفلاطون يتحدث في فقرة عن نوعين من الشيخوخة :
    شيخوخة كريهة ترى صاحبها و قد أدرك قرب نهايته في هذا العالم قد ارتسمت على محياه ملامح القبح و الجهامة وذلك أن روحه ملحدة شريرة فانقبضت لشعورها بسوء أفعالها و لرعبها من النهاية الحتمية .
    شيخوخة ناضجة ترى صاحبها و قد ارتسمت على وجهه ملامح النبل و البشاشة و الوداعة و الاطمئنان و ذلك أن روحه طيبة فانبسطت لشعورها بالأمن و رجائها في ثواب النعيم .
    هكذا كانت الجدة في قصة ” لا تحزن ” مطمئنة .
    حتى هذه اللام في ” لا تحزن ” هي لام التطمين عند البلاغيين .
    تحية لقم أديبتنا زاهية بنت البحر
    أرشح القصة لشهر نوفمبر
    طاقم الإشراف
    مجلة أقلام الأدبية
    أ. خليف محفوظ

    Like

    1. zahya12's avatarzahya12 Post author

      أ. خليف محفوظ أخي المكرم
      شكرا لك على قراءتك البديعة البليغة
      جزاك الله عني خير الجزاء
      أختك
      زاهية بنت البحرء

      Like

  3. zahya12's avatarzahya12 Post author

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الحقيقة أنني قرأت لك أعمالك في مواقع كثيرة على الشبكة العنكبوتيه وأعرف أنك تمتلكين حب المتلقي من خلال لغتك الراقيه والموضوعات التي تكتبين فيها .. فكل حرف لديك يا أختي يدعو للعمل الصالح والهروب غلى الله وفعل الخيرات .. تحملين على عاتقك رسالة سامية تحاولين نشرها على الأخرين من خلال الموهبة التي منحها لك الله ( واليوم هربت معك من وحدتي القاتله إلى أنيس الحيارى في وحدتهم.. إلى الله .. تخلصت من كل همومي وأنا أقرا لك هذا البوح الرائع الذي لايحسه سوى من يريد أن يلجأ إلى حب الله والهروب من أهواء الدنيا الفانيه ) شكرا لقلمك الصادق مع نفسك ومع الآخرين .
    خالص تقديري
    أخوك / نعيم الاسيوطي

    Like

  4. zahya12's avatarzahya12 Post author

    جاءني الكثير من الردود على هذه القصة
    التي فازت في موقع لها أون لين للنشر الورقي
    لكن من أجمل الردود وصلني رد من الأخ المكرم أبو نواف من موقع شاعر المليون قال فيه مشكورا:
    هل لي أن أجيب على سؤالك هذا
    كم كنا نشعر بالوحده وبالحاجه إلى قلم يحي الروح فينا
    فوجدنا هذا الإحساس وعشناها مع قلمك كم أنت رآآئعه وقلمك مميز
    تقبلي مروري ودمت بود ولك ارق واحلى تحيه

    Like

  5. الهام محمد's avatarالهام محمد

    غاليتي الزاهية
    كل منا ربما آل إلى موقف كهذا ومن منا لم يشعر بالوحدة ولكن الصعب هو عدم الاكتراث من قبل الآخرين نسميه حينها الموت حيا” .
    ما أروع الجدة هي دائما” تمثل خبرة الأيام ونتاجها وهي القدوة الحسنة ولله الحمد أن الإيمان بالله موجود وهذا ما يخفف من أعباء الحياة وتقبل الخاتمة بالرضا بقضاء الله وهو دائما” معنا
    اللهم اجعلها لنا على الإيمان وقوّ إيماننا بك ولا تجعلنا نضعف أو يستحوذ علينا الشيطان يا الله

    Like

    1. zahya12's avatarzahya12 Post author

      (اللهم اجعلها لنا على الإيمان وقوّ إيماننا بك ولا تجعلنا نضعف أو يستحوذ علينا الشيطان يا الله)
      آمين .. أيتها النقية التقية

      Like

Leave a comment

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.