Mryam M.Y

Just another WordPress.com weblog

Daily Archives: March 22, 2014

مذكرات سحاب 30-40

1

مذكرات سحاب(4)

 

 

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

 مذكرات سحاب

31

كان يومًا ربيعيًا جميلا أمضيته حتى الظهر في المدرسة مع رفيقاتي.. دراسةً ولعبًا ، ولكن ثمة أمر مزعج عكَّر صفو اليوم، عندما اتُّهِمَتْ يارا الصادق، بسرقة قلم حبر وفاء سعيد الذي أهداه لها عمها صالح عندما عاد مؤخرًا من أستراليا، دخلت المديرة الصف غاضبة، وتكلمت عن الأمانة وأن السرقة حرام، وذكرتنا بالآية الكريمة التي تنص على أن السارق والسارقة يجب قطع أيديهما جزاء بما فعلا. السرقة مرض خطير يصيب ضعفاء النفوس، فيجعلهم ألعوبة بيد الشيطان الذي يزين لهم القيام بها، ويوهمهم بأن نفعًا لهم فيها مما يحصل عليه السارق من مال، أو أشياء ثمينة من الآخرين.. ورغم أنَّ القلمَ وُجِدَ في حقيبة يارا مع أقلامها، فإنها أنكرت ذلك، وقالت بأنها لاتعرف من وضع القلم في حقيبتها، وأنها بريئة، ويجب الكشف عن الفاعلة التي جعلتها عرضة للشكوك، فاتهمتها المديرة بالكذب إضافة إلى السرقة، فراحت يارا تبكي وتقسم بأنها لم ترَ القلم قبل الآن، وعندما حضرت والدة يارا باستدعاءٍ من المديرة قامت الدنيا ولم تقعد، وعلت الأصوات، وتصرف الجميع بما لايرضي عاقلا، وطالبت والدة يارا باستدعاء الشرطة لمعرفة الحقيقة وأصرت على ذلك غير أن المديرة والمشرفة استطاعتا إقناع والدة يارا بالعدول عن طلبها، وأنهما ستعملان على إعادة التحقيق، وكشف السارقة الحقيقية فسألتُ نفسي: ترى هل سيحضرون غدا الشرطة والكلاب البوليسية التي تستطيع كشف السارقة أيا كانت؟  أخافتني الفكرة فأنا لاأحب الكلاب هذه،  منظرها يخيفني من بعيد فكيف إن كانت بالقرب منى؟ لكن سأغمض عيني إن أحضروها إلى المدرسة ، المهم الآن أن نعرف السارقة الحقيقية.

32

في منزل جدتي كانت أمي مشغولة بضيوف جدتي هذا اليوم، فوقفت مع الخادمة نوريني في المطبخ بعض الوقت حيث راحت تحدثني عن أخواتها الصغار وتقول بأنها اشتاقت لهن ولوالديها كثيرًا، وأنها سعيدة لأنها ستذهب إليهم بعد شهر ونصف لأن مدة العمل التي جاءت من أجلها قد شارفت على الانتهاء.. كانت طنجرة بخار كبيرة فوق النار، فحملتني نوريني وأرتني مابداخلها.. كان فيها كثيرٌ من العظام وقطع اللحم الكبيرة، ولكن نوريني قالت بأن هذه عظام ابنة خالتي تالا فقد ذبحوها اليوم، وسنأكلها مع الفريكة عندما تنضج، وقالت بأن دوري بذلك سيكون غدً.. خفت، أفلتت من يديها وأنا أصرخ من الخوف، دخلت إلى حيث خالتي ربى تجلس أمام التلفاز، وألقيت بنفسي في حضنها وأنا أرتجف.. سألتني عما بي فقلت لها: لاأريد أن تذبحوني كما فعلتم بتالا ثم تسلقون عظامي وتأكلونني مع الفريكة.
انتفضت خالتي بغضب وسألتني: من قال لك ذلك؟
أجبتها: نوريني  وأرتني العظام في الطنجرة، لماذا ذبحتم تالا، أريد أن أذهب إلى بيت أبي..
أمسكت خالتي بيدي ودخلت بي إلى المطبخ حيث كانت نوريني تغسل الصحون، سألتها: كيف تقولين لسحاب هذا الكلام؟ هل جننتِ؟
أجابتها بلكنتها الأجنبية: كنت أمازحها ولكنها صدقت.

صرخت خالتي بها: أتريدين أن تصاب الفتاة بالجنون، ساعة تكلمين الصغار عن الجن فتلقين الخوف في قلوبهم، وساعة عن مصاص الدماء واليوم تتهميننا بذبح تالا، مابك لماذا تخالفين تعليماتنا لك بألا تتحدثي مع الصغار بما يخيفهم. لم تقل شيئًا وراحت تضحك بصوت عال وهي تنظر إلى فألتصق بخالتي ونوريني تقول لي: اتريدين رؤية العظام في الطنجرة؟ فاقتربت خالتي منها وصفعتها على وجهها، فازدادت ضحكا، وأنا أمسح عن وجهي دموع الخوف الذي سيطر علي، رغم أني ضمنيًا لم أقتنع بما قالته نوريني، ولكنه أحدث في نفسي قلقًا ذكرني بالرجل الذي أراه في المنام يطارني وبيده السكين..

33

ذهبت زوجة أبي إلى بيت أهلها بزيارة خاصة، وتركتني مع أخي سامح مصطحبة معها سها وهدى.. كان سامح لطيفًا طوال مدة غياب أمه، وكنت ألاعبه، وأعطي له البيبرونة فيرضع منها الحليب الذي وضعته له  قبل ذهابها.. لم أشعر بالوحشة وأنا مع سامح، ولكني كنت مشغولة الفكر بشأن مذكراتي التي أخفتها عني في خزانتها في غرفة نومها وأبي، فقررت البحث عنها مستغلة فرصة غيابها عن البيت، فهذا حقي، فأنا أحس بأن مذكراتي جزء هام مني بعد أن أخرجتها من نفسي، ووضعتها فوق الورق، ليس من حقها أن تأخذها مني ..كانت غرفتها مغلقة، فتحت الباب واتجهت نحو الخزانة.. فتشت فيها، لم أجد شيئًا، فأحضرت كرسيا، ووقفت فوقه لأبحث عن دفتري فوق رفوفها، فوجدته تحت بعض الملابس المطوية، تناولته سريعًا، وأعدت الكرسي إلى مكانه، وأغلقت الخزانة وباب الغرفة، وأسرعت إلى غرفتي لأخفي فيها الدفتر الحبيب، ولكن فضولي جعلني أفتح الدفتر، وأقرأ فيه بعض المذكرات، فخطر ببالي أن أنقلها على أوراق خاصة، وأعيد الدفتر إلى الخزانة قبل أن تعود خالتي إلى البيت، فما زال الوقت مبكرًا لعودتها.. ساعدني في إتمام النقل نوم الصغير سامح، فأخفيت الأوراق هذه المرة داخل الفرشة التي أنام فوقها، وذهبت إلى غرفة خالتي لأعيد الدفتر، وقبل أن أغلق باب الخزانة فوجئتُ بها أمامي ..

34

أحسست بشعر رأسي يصل السقف مقشعرًا، وصوت مدوّ ينفجر في جمجمتي الصغيرة، فسَرَتْ البرودةُ في جسمي رغم تصبب العرق من جبيني، بينما تجمدت عيناي شاخصة في وجهها للحظات، ثم أحنت جفونها مطرقةً أرضًا .
أيقنتُ بأنني في موقف حرج، ولكن حرجه شتت فكري بهول المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أبدًا، ولاأدري ماالذي أتى بها قبل الموعد المحدد، فقد كان من المقرر أن يحضرها أبي عندما يعود من مكتبه..
رفعت نظري قليلا صوب يديها فوجدتهما متباعدتي الأصابع، وكأنهما قد تجمدتا في ثلاجة البيت كأصابع الدجاجة التي لا أحب أن أراها مذبوحة ينتف ريشها و يقطع رأسها فتغمض عينيها الصغيرتين جدا وهي ميتة لاحول لها ولاقوة، تواردت الخواطر الدجاجية المثلجة وكأن ذلك ينقصني.. سألت نفسي لماذا تجمدت أصابعها؟ فأجبتني: ربما لتصبح قاسية كالعصا فتصفعني بها فتوجعني.. وأنا أنظر إلي يديها رأيت اليمنى ترتفع قليلا فلحقتْ بها عيوني رغما عني بدافع حب الفضول الممتزج بالخوف من العقاب الذي مازال مجهولا بالنسبة لي، رغم قناعتي بأنني لم أقم بشيء لايحق لي القيام به، فرأيتها تضعها فوق أنفها، وتحكه بسبَّابتها حكًا متواصلا حتى ظننت بأنها ستقتلعه من وجهها ، فيصبح منظرها أكثر مناسبة لإرهابي كما يفعلون بأفلام الرعب عندما يدخل مجرم لسرقةٍ، أولقتلٍ كما رأيت ذلك في فيلم ذات مساء، فعاقبني والدي بعد ذلك بحرماني أسبوعًا من رؤية التلفاز، وأخبرني أنه لايحق لي رؤية أفلام الرعب التي تتعب الأعصاب، وتشوه تفكير الأطفال، فتوجههم نحو الجريمة، وتزرع في نفوسهم عقدًا من الصعب اقتلاعها منها، أين أنت ياأبي لترى ابنتك الآن في فيلم رعب حقيقي؟
أعلم أنك لا تسمعني، فأطرقتُ أرضًا من جديد بانتظار ماسيحدث بعد لحظات ..

53

سبحان الله كيف يطوف الفكر بنا في اتجهات مختلفة خلال لحظات قليلة، فنظنها ساعات وأحيانًا أياماً وسنوات.. هذا ماحدث لي وأنا أسيرة ورطتي المخيفة بفتح خزانة زوجة أبي أثناء غيابها عن البيت.. ربما شعرت بذلك لوجود هاجس في نفسي، يشعرني بأني لست ابنتها، ولايحق لي فتح خزانتها، ولوأنني كنت ابنتها فلن أ شعر بما أحس به الآن.. ماذا يعني أن تفتح البنت خزانة أمها، وتطلع على مابداخلها إن كانت الأم لاترفض ذلك؟ أنا أفتح خزانة أمي في بيت جدتي، وأرى ثيابها ومصاغها، ولم تنتقدني يومًا من أجل ذلك.. ترى هل ما أحس به سببه توبيخ الضمير لأنني قمت باستعادة مذكراتي بطريقة غير مشروعة؟ ربما هذا الأمر له تأثير أكيد فأنا أقرُّبأنني أخطأت، وأعترف بجبني لأنه كان علي أن أواجه المشكلة معها بما لايجعلني ضعيفة أمامها، بل أطالب بحقي في الاحتفاظ بمذكراتي الخاصة أعجبها ذلك أم لم يعجبها.. رفعت نظري عن الأرض محاولة رؤية يديها فلم أجد أحدًا أمامي ..أين ذهب ؟ فتشت في الغرفة فلم أجدها.. خرجت إلى غرفة الجلوس فلم أجد أحدًا فيها.. كان سامح مازال نائمًا.. ناديت: أمي ..أمي ..أين أنت؟ لم أسمع جوابًا.. حرت في أمري فعدت إلى غرفتها وأغلقت الخزانة وباب الغرفة وأسرعت إلى الهاتف في غرفة الجلوس.. طلبت أبي.. رد علي.. سألته برجاء أن يعود إلى البيت سريعًا، فأخبرني أنه قادم مع خالتي بعد أن أحضرها من بيت أهلها.. كدت أجن فزعًا فذهبت إلى المطبخ لشرب كأس من الماء ..كان الماء باردًا جدًا.. شربت مافي الكأس كله دفعة واحدة فشرقت به ورحت أسعل بشدة ومازلت أسعل وأنا أحس اختناقًا.. يشتد شعوري بالاختناق أكثر وأكثر فأصرخ بصوت عالٍ أبي.. أبي.. أفتح عيني فأجد أبي فوق رأسي يتلو سورة الفلق ..

36 

طلبت من والدي أن يأخذني خارج البيت لحاجتي للانفراد به، والتحدث معه بحرية دون مراقبة عينَيْ وأذنَيْ زوجته لكل حركة وكلمة تصدر مني.. ونحن في الطريق سألني: إلى أين تريدين الذهاب؟ فقلت له وأنا أتكمش بيده :إلى أي مكان في الدنيا يشعرني بالسعادة معك.. دعنا نمشِ في الشوارع..نتفرج على الناس، وعلى المحلات التجارية الممتلئة بالبضائع الجميلة منها غالي الثمن ومنها دون ذلك ..
وافقني أبي وبقينا نمشي من شارع إلى آخر حتى أحسست بالتعب والجوع، وكنا قد وصلنا سوق مدحت باشا أحد أسواق دمشق القديمة فقال لي والدي: سأصطحبك الآن إلى مكان لاتعرفينه، وهناك مفاجآت كثيرة فيه.
 ومضى يقطع بي سوق البزورية، فشممت رائحة البهارات والعطور، وشاهدت الكثير من أنواع السكاكر، وقمر الدين،والشموع الساحرة،ومحلات الصاغة التي تضم أجمل المشغولات الذهبية، ومحلات الملابس الشعبية القديمة، وفيها محلات لبيع الفاكهة المجففة التي أحبها جدا، فاشترى لي علبة فيها من كل أنواع الفاكهة، وقبل أن نصل إلى الجامع الأموي أدخلني بابًا كبيرًا لبناء أثري عرفني عليه قائلا: هنا قصر العظم ستشاهدين فيه الآن مايدهشك.. دفع أبي بعض النقود للموظف المسؤول عن دخول الزواروالسياح إلى القصر.. أول مالفت نظري هنا الأواني النحاسية الكبيرة جدا التي كان القدماء يسكبون فيها الطعام في الحفلات والولائم، والصناديق الخشبية والحديدية المعروضة في مدخل القصر التي كانوا يضعون فيها الألبسة والأشياء الثمينة، ثم دخلنا دارا واسعة فيها الكثير مما يشبه الخيال، سبحت الله وأنا أرى الشمس تعانق أشجار النارنج والكباد، والعصافير تملأ الأجواء زقزقة وتغريدا.
قال والدي :قصرالعظم يابنتي: هو أحد أهم معالم دمشق القديمة. سألته بإعجاب:

من بنى هذا القصر ياأبي؟

أجاب: بناه أسعد باشا العظم، والي دمشق عام 1749، وقد استعان في  بنائه بأمهر الصناع والعمال في دمشق.

 سألته: كم استغرق بناؤه؟

–  يقال بأنه استغرق ثلاث سنوات.

سألته: ومن سكن البيت الكبير هذا؟

أجاب: سكنه أسعد باشا العظم وأسرته ومن شاء لهم الحياة معه.

سألته وهل دام لهم مدى الحياة؟

أجاب: لا ياسحاب فقد اتخذه المفوض السامي الفرنسي مقراً لإقامته في بداية الاحتلال 1920.

  سألته: ولماذا أخرجوا أهله منه؟

قال: يقال بأن الحكومة الفرنسية اشترته من ورثته وحولته إلى معهد للدراسات العلمية.

سألته: وهل ظل القصر محافظا على بنائه كما كان في بدايته؟

أجاب: لا، فقد تعرض لأضرار كبيرة خلال القصف الفرنسي لدمشق إبان الثورة السورية عام 1925، وتم ترميمه بعد ذلك.

– ترميمه؟ ماذا يعني ترميمه؟

قال ضاحكا: يعني إصلاحه .

– ولمن هو اليوم ياأبي؟

أجاب: بعد الاستقلال  تحول عام 1954 إلى متحف للتقاليد الشعبية.

قلت : ماأجمل هذا المكان البديع!

–  يعد هذا القصر أنموذجاً للبناء الشامي القديم، وهو من أهم مقاصد السياح في دمشق.

قلت  وأنا أشعر بالزهو: أنا أحبك كثيرًا لأنك والدي ولأنك أحضرتني إلى هنا ..

ضحك أبي سعيدًا وأنا أنفلت من يده، وأركض في بهو حديقة القصر الفسيحة فأكاد أطير من البهجة، وأحلق مع اليمام والعصافير التي كانت تغرد فوق الأشجار.. صدق أبي عندما قال لي بأن هذا القصر هو أنموذج مدهش للبيت الدمشقي القديم، حيث يشعر فيه المرء بالانشراح والسرور لما يحوي من الحجارة الجميلة، التي تتشابه مع البيوت القديمة بما فيها من الرخام الملون، والأزهار المختلفة، وبحيرة صغيرة تتدفق فيها المياة من نافورتها التي تتوسط باحة البيت.

 قال أبي: كان على مدرستكم أن تأتي بطلابها إلى هنا لتريهم القصر الذي أصبح الآن متحفا للفنون  والتقاليد الشعبية.

ليت بيوتنا اليوم تعود مثل هذا القصر بحديقته، وأشجارها ونافورة المياه التي تغدق في البحرة الصغيرة.. ما أجمل الحياة في هذا البيت.. اقتربت من الماء ورحت أغسل به يدي ووجهي، وأبي يبتسم لي وأنا أرشقه بالماء البارد ..
قلت له: أحس عطشا أأشرب من ماء النوفرة، فنهاني عن الشرب منها، واصطحبني إلى مكان خاص بماء الشرب، فشربت حتى ارتويت، ثم تابعنا زيارتنا للقصر ..

قال لي: انظري ياسحاب إلى اتساع المساحة هنا، ويعتقد أن مساحته الاصلية كانت تفوق ذلك، ولاندري ماالذي غيرها، يتالف القصر من ثلاثة أقسام حسب التقليد الدمشقى العريق، وهى السلملك، والحرملك، والخدملك.

لاأدري ماذا أصابني فانفجرت ضاحكة وأنا أردد السلملك، الحرملك، الخدملك.

فهم أبي ماأصابني فقال، السلملك هو المكان المخصص للرجال، والحرملك للنساء والخدملك للخدم، اضكحي الآن فأنا سعيد بسعادتك، ولن أنسى فهناك أيضا الحمَّام والمرآب، فرحنا نشاهدها قسما قسما. وقبل مغادرة البيت قلت لوالدي: أريد قصرا مثله.

فانفجر هو هذه المرة ضاحكا. 

37

عندما علمت زوجة أبي بزيارتنا لقصر العظم، كادت تفقد صوابها، فراحت تصرخ بأبي بصوت عالٍ، وتتهمه بحبه لي أكثر منها ومن أولادها.. حاول تهدئتها في بادئ الأمر، ولكنها كانت تزداد غضبًا كلما ازداد هو تواضعًا ومسايرة لها، إلى أن فقد القدرة على متابعة الصبر على ماتتلفظ به من كلام أكثره جارح ومهين لرجولته، فوقف بوجهها محاولا إخافتها، فازداد الأمر بينهما سوءً، فشعرت بالذنب تجاههما، وبأني السبب فيما يحدث بينهما من شجار فدخلت غرفتي وأنا أبكي حزنًا على أبي، وعلى نفسي التي رحت ألومها على أنها تشعر بالضيق مما تتعرض لها من مضايقات.. مضى اليوم ولكن ليس كأي يومٍ آخر فيه تجرعت القلق والحزن والخوف من انتقام زوجة أبي مني، ومنعًا لذلك اصطحبني والدي إلى بيت جدتي التي راحت تدافع عني، وعن حرية أبي ضد زوجته، وتقول له بأنه حرٌّ، وليس لزوجته سلطة تمنعه من فعل مايشاء، ودعته لإخافتها بإظهار القوة كما كان يفعل مع أمي، وقالت جدتي كلمة جميلة بحق والدتي المطلقة منه، جعلتني أحس بالحنين إليها وحاجتي لأن أكون بالقرب منها في مثل هذه الظروف، قالت له بالحرف الواحد: ذكر الله أم سحاب بالخير، فقد كانت مؤدبة وصبورة، ولاتقول إلا مايرضي الله، وما سمعنا لها يومًا صوتًا عاليًا بغضب أو بفرح، فتدفقت دموعي بغزارة وسألت جدتي عن الأسباب التي سببت الطلاق بين أبي وأمي فصمتت ولم تجبني. 

38 

انزويت هذه الليلة في غرفة عمي بعيدًا عن الجميع، وأنا أبكي بحرقة، وأسأل الله أن يفرِّج عني ما أعاني من مشاكل، فالقهر يحيط بي من كل جانب، فما أن أرتاح قليلا من ظلم زوجة أبي لي، حتى أحاصر بتحكم أهل أبي بأموري كلها، فلا يتركون لي فرصة أتمسك بها بيدي سعادة عابرة تمر بي.. قبل أيام كنت في زيارة لأمي وتمنيت البقاء معها دائما، ولكن كلمتني ابنة عمتي هاتفيًا للعودة إلى بيت جدتي لأبي، اعتذرت منها وطلبت أن أبقى يومًا آخربقرب أمي وخالاتي وجدتي وجدي، الذين يضعونني في عيونهم، ولن أنسى الرحلة التي اصطحبتني بها جدتي إلى حارات دمشق القديمة، وقد سجلتـْها جميعًا بفيديو الموبايل، وأدخلتني إلى مطعم شهير للبيتزا فأكلت منها بنهم، ووعدتني بشراء ثيابٍ جميلة في غير يوم العطلة الأسبوعية.. كانت أمي تسألني عن أحوالي المعيشية في بيت أبي، فأحكي لها ماأعانيه من قسوة زوجته وكيف تعاملني بغير ما تعامل به أولادها، حتى في الطعام والملبس وأشغال البيت، فكانت تحزن علي كثيرًا، وأحيانًا تبكي بحرقة. وعندما عدت إلى بيت جدتي حاول الجميع استجوابي عما تسألني أمي وأهلها، وعما أشاهده في بيت جدي، فقلت لهم ذلك تحت التهديد بحرماني من رؤية أمي إن أنا كذبت عليهم، أو أخفيت شيئًا مما سمعت ورأيت عندهم، فكانت أجوبتي عن أسئلتهم سببًا بمنعي من حضور حفلة خطوبة خالتي رجوى .. 

39

سهرت هذه الليلة ودمعتي تلوب بين جفوني، فلا أنا قادرة على إطلاق سراحها، ولاأنا قادرة على حبسها في عينيَّ تحرقهما.. جلست أفكر بحفلة الخطوبة والعروس خالتي رجوى التي أحبها كثيرًا، فهي تهتم بي عندما أكون في بيت جدتي، وهي التي تواسيني عندما تجدني حزينة وتعمل على إخراجي من دائرة الكآبة التي تحيط بي في بعض الأحيان، فتنتشلني من بين أنيابها المفترسة.. صحيح هل للكآبة أنياب مفترسة كالليث والنمر والفهد والضبع؟..

آه كم أحب رؤية هذه الحيوانات عن قرب، سأطلب من أبي أن يأخذني إلى حديقة الحيوانات لمشاهدتها، سيكون ذلك جميلا جدا، ياااه نسيت بأن زوجة أبي ستمنعه من ذلك، حسنًا سأطلب من أمي أو جدتي الذهاب بي إلى حديقة الحيوانات.. أمي الآن وجدتي وخالاتي سعداء بخطوبة خالتي رجوى وأنا حزينة.. هم يغنون ويرقصون، وأنا أحترق بصمت.. جدتي لأبي ترفض أن أذهب لحضور الحفلة بتحريض من والدي الذي أقنعته زوجته بأن أهل أمي يستجوبوني لمعرفة أسرار حياتي في بيتها، على كل أنا لم أكذب بما قلت، فهي وأبي يخبراني بأن في سقف البيت الخشبي أفعى نسمع خشخشة حركاتها في الليل عندما نطفئ النور في غرفة النوم في بيتنا الجديد الذي انتقلنا إليه مؤخرًا، وهو عبارة عن غرفة واحدة ننام فيها جميعًا، ونستقبل فيها الضيوف أيضًا.. حالة والدي المادية أصبحت سيئة جدا في الآونة الأخيرة، ولم يعد يأتي إلى البيت في فترة الظهيرة لانشغاله في دكانه الذي يبيع فيه، ويتناول غداءه عند جدتي فبيتها قريب من مكان عمله، وتذهب زوجته لتأكل عند أمها، وأبقى أنا وسها في البيت، وغالبًا مايكون طعامنا سندويشة واحدة طوال اليوم، وكل يوم تطلب مني أمي النوم قبل وصول أبي، فأسألها أن تعطيني بعض الخبز لإسكات الجوع فتقول بأنه ليس في البيت خبز، وعندما يعود أبي سيحضر معه الخبز، ولكنني أنام قبل قدومه خوفًا من الأفعى، وعندما أصحو من النوم والجوع يعض معدتي أسمع صوت خشخشة الأفعى في السقف والنور مطفأ، فأدفن رأسي تحت المخدة خشية سقوطها فوقه فتعضني هي الأخرى..

40 

ماأصعب الهم عندما يسكن في قلب طفلة صغيرة مثلي، يحرمها العيش الهني، ويلون أيامها بالسواد.. عندما أرى قوس قزح أنظر إليه بإعجاب، وأغبطه على ألوانه الجميلة، وأتمنى أن تعشعش في قلبي فتنير حياتي بالجمال، الأخضر والبرتقالي والأصفر والأزرق ألوان أحبها مثل البوظة المشكلة الألوان بالكيوي، والحليب، والشوكولا، والأناناس، والمانجا.. عندما يصبح معي نقودٌ سأشتري فستانا بألون قوس قزح، ولن أترك البوظة تسقط عليه، وأنا أتناولها من البوري البسكويتي اللذيذ، سيكون الفستان جميلا بلا شك..

ياالله لاأدري لماذا كُتب علي الحزن والحرمان، وما الذي يعجبه بقلبي الصغير الذي لايستطيع مقاومة أسنانه الطويلة، وفمه الواسع، فيلوكني بهمه دون رحمة، فلايشفق علي كخالتي زوجة أبي..أحيانا أراها بشعة..  مخيفة كالضبع الذي رأيته محنطًا في أحد معارض الحيوانات بالقرب من سوق الحميدية.. أنا لاأحب الضبع قال لي أبي عنه بأنه خبيث، ونتن.. أين أنت ياأمي ليتك تأخذيني، وتدفنيني في صدرك الدافئ الحنون فترتوي عظامي دفئًا، فلا أحس ببرد الغربة عنك.. ليتهم لم يسلخوني عن صدرك فشبعت منك حليبًا يسعف جوعي عندما أطلب طعامًا فلا أجده.. أتراني أخطأت عندما أخبرتهم بأنني قلت لك كل شيء عن حياتي معهم؟ أنبتني جدتي كثيرًا، فقلت لها لقد أصابك الخـَرَفُ ياجدتي.. فجن جنونها، وقامت الدنيا فوق رأسي ولم تقعد.. اتهم الجميع أمي، وأهلها بأنهم يقولون ذلك عن جدتي.. أقسمت لهم بالله بأن أمي لم تذكر ذلك يومًا، لم يصدقني أحد، وحاربني والدي ثلاثة أيام دون أن يكلمني أو ينظر إلي، فازددت همًا فوق همٍّ.. سألت نفسي هل سأظل أسيرة ظلمهم العمرَ كله؟

 لم أجد جوابًا ولكنني على أيةِ حال سأنام الآن، وقد بيَّت أمرًا سأنفذه في الغد بإذن الله .

يتبع

الحقوق محفوظة

مذكرات سحاب 30-40

0

 

 

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

 مذكرات سحاب

21

رافقت  خالتي  وسها إلى سوق الحميدية لشراء بعض الأغراض الضرورية من هناك.. هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها السوق.. دهشت وأنا أتنقل بين المحلات التي تبيع الملابس والأحذية والعباءات المطرزة بخيوط القصب، والعطور الرائعة الرائحة.. كانت السوق تغص بالناس من كل الجنسيات العربية والأجنبية     ..رأيت الأجانب يشترون الملابس الشرقية المزركشة، ويفرحون بها وبعضهم كان يرتديها ويأخذون بها الصور التذكارية بين الناس بواسطة كاميرات التصوير والفيديو، صورني أحدهم وأنا أبتسم له، وكانت البالونات تملأ سماء السوق المسقوفة.. ياااه ما أشد ارتفاع السقف، لاأدري كيف استطاعوا بناءه.. يبدو أنه قديم جدًا..  رأيت الأعمدة الأثرية تزين جنبات أبواب المحلات التجارية، وعندما مررنا من قرب أحد المحلات التي تبيع البوظة وكشكة الفقراء والكاتو، طلبت من خالتي أن تشتري لي بوري بوظة ففعلت ذلك، فرحت وهدى نأكلها بشهية إلى أن وصلنا إلى قرب الجامع الأموي الكبير، وكان المؤذنون قد بدأوا بالأذان.. ياالله ما أجمل صوت الأذان قرب الجامع حيث شعرت بدقات قلبي تزاد وإحساس غريب يخفق بنبضي.. طلبت من خالتي أن تدخلنا إلى المسجد ففعلت لأنها كانت تريد أداء صلاة الظهر.. وعندما دخلت المسجد دهشت وتركت يدها، ورحت أركض بفرح باتجاه الحَمام الكثير الذي كان يلتقط حبوب القمح في أرض صحن المسجد الخارجي، وعندما اقتربت منه فرَّ طائرًا بينما انزلقت رجلي فوق الحبوب، فوقت على وجهي، وأنا أصرخ من الألم، والدم ينزف من أنفي..

22

كانت  خالتي بعيدة عني وأنا مرميَّة فوق حبوب القمح، أبكي ألمًا وخوفًا من الدم الذي ملأ وجهي ويدي بشكل مرعب، فأسرع نحوي بعض الرجال الذين كانوا يتوضأون في صحن الجامع لنجدتي، فأمسك أحدهم بيدي وهو يستعين بالله ويهون علي، فرفعني عن الأرض، ومضى بي إلى الموضأ القريب، فغسل وجهي بيده، وأخرج منديلا ورقيًا من جيبه، وضغط به فوق أنفي النازف ريثما وصلت خالتي إلي على عجل قبل أن تدخل بهو الجامع للصلاة، فأخذتني جانبًا، وأنبتني على ماقمت به من طيش تسبب في وقوعي فوق الأرض، فازددت بكاءً، ولم أهدأ حتى وصلنا إلى البيت، فأسرعت إلى الحمام، وغيرت ملابسي المتسخة بالدم.. كان وجه أختي سها مصفرًا طوال الوقت خوفًا من منظر وجهي الملطخ بالدماء، ورغم ماألم بي من أوجاع فإنني لاأنكر أن مشوار اليوم كان جميلا، ومدهشًا لولا أن انتهي بنزف أنفي المفزع.. ما أجمل بلدي الحبيبة، وما أروع آثارها الخلابة، سأطلب من خالتي أن تأخذنا ثانية إلى سوق الحميدية، والجامع الأموي على أن لا أركض فيه للقبض على الحمام الأليف الذي يملأ صحن الجامع وسطوحه ومآذنه العالية، إنه يزيد من روعة المكان فيشعر الواحد منا بالأمن مادامت الطيور آمنة.. أحببتُ المآذن كثيرًا وبخاصة مئذنة العروس التي لم تعرف خالتي  لماذا أطلق عليها هذا الاسم..

23

ظل اسم مئذنة العروس يشغل تفكيري مدة من الزمن إلى أن سألت أبي ذات يوم، ونحن نشرب الشاي بعد الغداء :أبي ماسبب تسمية إحدى مآذن الأموي بمئذنة العروس؟ هل كان ذلك بسبب صعود العروس للأذان. ضحك والدي حتى ملأت دموعه عينيه.. ضمني إليه وهو يقول: لاياسحاب لا العروس ولا غيرها يجوز لهن أن يؤذنَّ، فالأذان خاص بالرجال وصوت المرأة ياابنتي عورة خاصة إن كان بشيء من الحنان أو الدلع أو الغناء، فلا يجوز أن يسمعه الرجل الغريب غير المحرِم .
فسألته: وهل للصوت عينان قلعت إحداهما فصارت عورة؟!!
عاد أبي للضحك وهو يقول: العورة ياابنتي غير أعور فالأعور والعوراء من قلعت عينه أما العورة فهي تعني أنها محرمة على غير الأهل رؤيتها أو سماعها .
فسألته وهل لي عورة ياأبي ؟
فأجابني: نعم ياسحاب وعندما تصبحين في سن البلوغ فيجب أن تتستري كأمك تماما. وعورتك الآن ماتخجلين بإظهارها أمام الناس وحتى أمام والديك.
احمر وجهي خجلا من أبي وزوجته وراحت هدى تضحك وقد أخفت وجهها براحتي كفيها
فقلت له هروبًا من الحرج: ولكن لم تخبرني لماذا سميت المئذنة بمئذنة العروس ؟

قال والدي وهو يتحدث بفخر عن بلدنا، وعن حضارتنا الإسلامية التي بت أفكر بها كثيرًا وأتمنى أن أعرف عنها كل شيء، فهاهم الأجانب يقلدوننا، ويرتدون ثيابنا الشرقية، ونحن للأسف نجري وراء أزيائهم التي لاتناسبنا كما قالت معلمتي في المدرسة.. ابتسم والدي وهو يقول: قرأت ذات يوم في كتاب لم أعد أذكر اسمه مافيه تعريف بهذه المئذة ( تقع المئذنة في الواجهة الشمالية للجامع الأموي،  وهي معروفة باسم “مئذنة العروس”، لأنها تضيء في الليل فتظهر كالعروس، وينتهي رأس هذه المئذنة بساعة تُضبطُ على دقاتِها أوقاتُ مساجد دمشق كلها ومواعيدُ الأذان، وقد أقامها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وطلاها بالذهب، وغدت في ما بعد أنموذجاً للمآذن في سورية وشمالي أفريقية، ونقل طرازها الى الأندلس، وتعد أقدم مئذنة إسلامية ما زالت قائمة.
وتابع والدي الكلام قائلا: ولكن هناك رواية أخرى غير هذه تحكي لماذا سميت بهذا الاسم. سألته عنها فرفض أن يرويها لنا رغم إلحاحي و خالتي بالطلب، وترك الأمر لي كي أبحث عنه في بعض الكتب الموجودة في مكتبتنا ،لأحصل على معلومات أخرى وأنا أبحث عنها. لله ماأذكاك ياوالدي تريد أن تعلمني حب القراءة والبحث.. حسنًا سأقوم بذلك، ثم سأروي لكم أنا سبب التسمية هذه، فانتظرني ريثما أجد الكتاب، وإن لم أجده فسأسأل معلمتي في المدرسة عنها، فهي بلا شك تعرف ذلك أوليست هي معلمة وتعرف كل شيء؟

 24

بحثت في الكتب التاريخية فلم أجد شيئًا يدلني على سبب تسمية مئذنة العروس بهذا الاسم غير الذي ذكره أبي، وعندما سألت معلمتي في المدرسة أخبرتني بما أخبرني به أبي، ولم تزد شيئًا، فاضطررت للعودة إلى أبي ليحدثني عن ذلك.. وعدني خيرًا، وفي المساء عندما كنا نشرب الشاي بعد تناول العشاء، ونحن ملتفون حول المدفأة قال أبي: سأخبركم بسبب تسمية المئذنة الشمالية للجامع الأموي بمئذنة العروس ..
فرحت كثيرًا وجلست وكلي آذان صاغية، بينما كانت  خالتي غير مهتمة بالأمر، وأختي سها كذلك.. قال أبي: ذكرت بعض كتب التاريخ مايلي( أقام المئذنة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وأراد أن يدعمها بالرصاص خشية الزلازل والحرائق، فوضع البناءون كل الرصاص الذي تملكه الدولة فيها، واشتروا من الأسواق كل الرصاص أيضًا، ولكن ذلك لم يكفِ فراحوا يشتكون للخليفة حاجتهم الملحة للرصاص، وأخبروه أن أحد التجار في دمشق عنده مايكفي، ولكنه توفي وورثته ابنته الوحيدة، وهي ترفض أن تبيع لهم الرصاص، فطلب إليهم أن يدفعوا لها ماتريد من المال، فعادوا إليه يخبرونه بأنها تطلب أكثر مما يعرضون عليها، فقدم الخليفة أموال الخزينة كلها، فقالت أريد أكثر، فـحارَ الخليفة وسألها ماهو الأكثر الذي تريدينه فأجابت: رضا الله. وقدمت كل الرصاص مجانًا لبناء المئذنة، فأعجب الخليفة بالفتاة وزوجها لأحد الأمراء من أبنائه، ولذلك سميت بمئذنة العروس.

25

ظلَّت قصة بناء مئذنة العروس تتردد في رأسي حتى تمنيت لوأني كنت تلك العروس التي رفضت أموال خزينة الخليفة كلها في سبيل رضا الله. لم يخطر ببالي أن رضا الله يُشرى بمثل هذا الثمن الغالي جدا، فقد دفعت هذه الفتاة كل ميراثها من أبيها، ولم تكن تفكر بالزواج من ابن الخليفة، فكافأها الله به.. ماأروعها من فتاة وما أكرمها من نفس، لم أكن أعرف أن هناك نساء رائعات لهنَّ مواقف تقشعر لها الأبدان غير المجاهدات العربيات المسلمات.. كنت أظن أن معظمهن مثل زوجة أبي التي ظلمتني كثيرًا، أو مثل أمي مظلومةٍ لاحيل لها ولاقوة، أو مثل معلمتي تعلمنا في المدرسة ثم تعود إلى بيتها لتربية أولادها كبقية النساء، أو مثل جدتي همها في الطهي، وغسيل الثياب، وتنظيف البيت وتوبيخ عمتي بهيجة قبل أن تتزوج، إن هي تأخرت في النوم، ولم تجهز لجدي فطوره كي يشرب الدواء، فعمتي كانت تشاهد التلفاز حتى ساعة متأخرة من الليل. بدأت أحبُّ التاريخ وعندما أكبر سأدرسه بإذن الله كي أستفيد من الأحداث التي مرت فيه، فتكون لي دروسًا تعلمني كيف أكون إنسانة مثل عروس المئذنة.. قلت لأبي: أريد أن تكون في الجامع الأموي مئذنة باسمي مثل العروس صاحبة الرصاص التي زوَّجها الخليفة لاميرٍ من أولاده .لاأدري ماالذي جعل أبي يضحك بصوت عال وصل حدَّ القهقهة، فراح يسعل بشدة متأثرًا بالضحك، مما جعل خالتي  تأتي إلينا في غرفة الجلوس تحمل كأسًا من الماء ناولته لأبي ليسكت به السعال، وسألته عن سبب ضحكه الغريب هذا.أخبرها بالأمر وهو مازال يضحك، فنظرت إليَّ بسخرية وقالت: مئذنة باسمك !؟ أمَّا هذه فهي نكتة الزمان كله، من أين لأبيك مثل ميراث الفتاة من الرصاص، ودخله الشهري بصعوبة يكفينا مصروفًا؟ ثم أي أميرٍ تطمعين بالزواج منه ياروح أمِّك؟ لاتتعبي عقلك الصغير بأحلام مستحيلة، واحلمي على قدر واقعك، وإلا وقعت على رأسك، ولن تجدي من ينقذك من مصابك.
هكذا إذن يازوجة أبي تريدين أن تحطمي نفسي بقتل أحلامي قبل أن تولد.. حسنًا سأظل أحلم بما أشاء دون أن أتحدث عن أحلامي لأبي كي لايخبرك بها فتسخري مني، ولكن من يدري فقد يكون لي مئذنة باسمي والله قادر على أن يحقق لي ما أريد.

26

ذهبتُ اليوم مع خالي مهند إلى بيت جدتي لأمي، وكالعادة وجدت خالاتي وأولادهن مجتمعين عندها ..انفردت بي أمي جانبًا، سألتني عن سبب صمتي وحزني على غير عادتي عندما أكون معها.. رويت لها ماحصل بشأن مئذنة العروس، وطلبت منها اصطحابي إلى الجامع الأموي لأمتع عيني برؤيتها فقد سلبت قلبي.. وعدتني خيرًا على أن تقترح ذلك على خالاتي أثناء الغداء، فإن وافقن ذهبنا جميعًا إلى الجامع حيث يوجد الناس بكثرة في صحنه وفي داخله ..
عندما دخلت الجامع من باب سوق الحميدية لم ألتفت يمنة ولايسرة، وإنما كان نظري موجهًا نحو مئذنة العروس.. لاأدري كم من الوقت مرَّ، وأنا أتفحصها شبرًا شبرا.. يالها من مئذنه رائعة حقًا، مبنية من الرصاص، وكما قيل أمَرَ الخليفة الوليد بطليها بماء الذهب ..أين أنت يامن ساهمت ببنائها بميراث الرصاص من أبيك؟ أرجو أن تكوني في جنات النعيم التي عملت لأجلها ..
لقد رحلتِ عن الدنيا وفنيتْ عظامُك، ولكن عملك للخير في سبيل الله ظل حيًا يتناقله الناس أبًا عن جد.. رحمك الله، وأثابك خير الثواب.. ليتني أعرف مااسمك، لاأدري لماذا كتم التاريخ هذا الاسم لصاحبته الكريمة. نعم لصاحبته التي أكل جسدها الدود، ولم تعد تُعرفُ من هي، ظل العمل الطيب وغاب الجسد والاسم معًا.. سأسعى بأعمال الخير مثلك ياعروس، وما همني أن يذكر اسمي بمئذنة، أو غيرها أو لايذكر، فالعمل هو لوجه الله عزَّ وجل، وهو يجزي به الثواب. 

27

كان يوم نحسٍ ذاك الذي اكتشفت فيه خالتي دفتر مذكراتي.. فبعد أن بدأتْ تحسن علاقتها بي، وتكف عن مضايقتي الدائمة، وملاحقتي في البيت بالعمل المستمر، عادت من جديد لما كانت عليه بل أشد ظلما من ذي قبل.. لقد عثرت على دفتري الصغير في حقيبة المدرسة، وهي تبحث عن دفتر العلوم الخاص بأختي سها، فقد أضاعته في المدرسة، وادعت أنه في البيت ولاتعرف أين هو.. قامت خالتي بتفتيش حقيبتي وأنا في منزل جدتي لأمي، وعندما عدت إلى البيت انفردت بي والشرر يتطاير من عينيها، وألقت بدفتر المذكرات أمامي على الطاولة في غرفتي، وسألتني عما بداخله ..ارتبكت..صمت.. احمر وجهي، عرق جبيني، وارتجفت يداي.. كررت السؤال، فأطرقت ولم أجب. أمسكتني من كتفيَّ، وهزتني بشدة ، وكأنها أصيبت بالجنون، فكاد ظهري يقصف.. خفت وأنا أنظر في عينيها الحمراوين المفتوحتين في وجهها كنافذتين تخرج منهما النار لتحرق وجهي المصفر، فانهارت قواي، وشعرت بدوخة مفاجئة كدت أسقط بها فوق الأرض، لولا أن صفعتي على خدي الأيسر صفعة جعلتني أستعيد وعيي، وأنا أصرخ من الألم والخوف، وأستنجد بأبي الذي أقبل مسرعًا، وأبعدها عني قبل أن تسحب روحي من صدري بما ألقته في داخلي من رعب ..

28

أحيانا أحس بأنني أكره الحياة لكثرة ما أجد فيها من عذاب ..ماذنبي كي أبدأ عمري بالحزن، أمشي في طريق وعرة، أسقيها بالدموع، ويحفر أقدامي الوجع.. عندما أرى رفيقاتي في المدرسة يبتسمن دون أن تترقرق الدموع في أعينهن، أتمنى لو أني واحدة منهن أعيش مع أمي وأبي، لايفرق بينهما طلاق ولافراق.. محرومة أنا من حنانهما معًا.. أحس بأن قلبي مشتت بينهما وبين جدتي وعمتي.. أتمنى لو أستطيع أن أمسك بيد أمي بيدي اليمنى، وبيد أبي باليسرى، وأركض معهما في حدائق كلها زهور وطيور وجداول ماء.. نفرش بساطًا فوق الحشائش ونجلس سعداء.. تصنع أمي الشاي وأبي يشوي اللحوم، وأنا أركض خلف الفراشات الملونة وأزقزق كالعصافير .. نظل في الحديقة حتى تغيب الشمس ويبدأ النهار بالانسحاب حاملا معه أحلى الذكريات، ويأتي الليل فنجلس بعد أداء الصلاة نتحدث في أمور مختلفة، يروي لنا والدي قصصا تاريخية تخبرنا عن عظمة بلادنا وبطولة أهلها، وتنشد لنا أمي أحلى الأناشيد التي تعلمني فيها التقى والإيمان ومحبة الله عزوجل ورسوله الكريم.. يالغبائي المفرط، ويالتعاستي المقيتة، كيف سيكون لي ما أريد وأنا قلقة. خائفة تسقيني زوجة أبي الماء مرًا وتطعمني الزاد فاسدا؟ ربما كان وجودي في هذه الحياة ليس مهمًا بالنسبة لأحد، وسأظل على الهامش مدى العمر..

29

صعب على الحزين أن يبتسم.. صعب عليه أن يرى شيئًا جميلا في الحياة مهما كان مدهشًا.. أنا الآن أبكي في داخل نفسي.. أصمت، وأطرق أرضًا.. أود أن أخرج من دائرة حزني التي تشدُّ على رقبتي بقبضة خشنة تريد أن تخنقني..أريد أن أصرخ… أن أركض.. أن أطير.. أن أصبح عصفورًا أحلق عاليًا.. أتنقل فوق الأشجار في كل الحدائق.. في كل البلاد.. فوق البحار والجبال لايقيدني شيء، ولكن جسدي هذا يحبسني ،يشدني نحو الأرض.. أحسه ثقيلا لايساعدني على أن أرفرف بجناحي روحي.. ليت زوجة أبي تشعر بي، فتعاملني كابنتها.. فلا تضربني، ولا تبخسني حقي في السعادة، ولاتحرمني من مذكراتي التي كنت أتسلى بها، فأبث الورق أشجاني، فأرتاح من المؤلم منها.. لو أن زوجة أبي تحسن علاقتها بي الآن، فسأمسك بيدها، وأصطحبها معي في رحلاتي عندما أكبر، ويصبح لي بيت وأولاد مثلها، ولن أكون قاسية معها بل سأشفق عليها، وأنسى مافعلته بي.. يارب ساعدني كي أعيد دفتر مذكراتي منها، فأنا الآن أكتب على ورقة أخذتها من دفتر الحساب، وسأخفيها في مخدتي ريثما أشتري دفترًا جديدًا..

بعد العَشاء جلس والدي يشاهد الأخبار، وكنت أنظف طاولة الطعام، وأجمع في كيس صغير ما بقي فوقها من فتات الخبزالذي نتركه حتي يصبح يابسًا، ثم نضعه في الشاي أو الحليب، فنكسب ثواب حفظ النعمة.. هكذا تعودت منذ أن وعيت الدنيا، وكثيرًا ما كنت أسمع جدتي لأمي تقول: من يحفظ النعمة تحفظه.كلام جميل جدا، ولكنني مالبثت أن نسيته عندما صرخ أبي بصوت عال.. لاحول ولاقوة إلا بالله.. لاحول ولاقوة إلا بالله.  نظرت إليه فوجدت عينيه معلقتين بالتلفاز، فتابعت ماكان يشاهده، فلم أستطع أن أثبت ناظري في الصورة التي تعرض على الشاشة.. كان منظر الدمار بشعًا، والقتلى يملأون المشهد.. وبرك الدماء تنتشر في أمان متفرقة من الأمكنة.. هربت من الغرفة، وأنا ألعن الحرب ومن يقتل الأطفال والنساء والعجائز. أنهيت عملي في المطبخ، وأسرعت إلى غرفتي لأغرس أحزاني فوق سطور ورقتي شتلات ألم بمذكراتٍ تمتص بعضًا من وجعي، وما ألبث أن أضع رأسي فوقها لأراها في النوم بتفاصيل مطولة، وأشياء غريبة تشبه الواقع في شيء وتختلف عنه في أشياء، ولكنني لاأستطيع تحديدها تمامًا ..

30

وما زلت أركض في الشارع الخالي من المارة، والظلام يخيم فوق الطريق.. أركض.. أركض، أحس بأني مازلت في مكاني، وأنَّ رجلي ثقيلتان لاأستطيع رفعهما عن الأرض، والرجل الذي يلاحقني يحمل سكينًا كبيرًا يلمع كعينيه الدائريتين، ومعه كلب أسود كبير، فأحاول الإسراع، ولكنني أقع فوق الأرض، فأنهض ثانية بصعوبة وأركض.. أصرخ فلا أسمع صوتي.. أنظر خلفي.. مازال الرجل وكلبه يلاحقاني، ويكاد يقبض علي.. ياإلهي هاأنا ذي فوق جبل شاهق الارتفاع، والرجل يلاحقني.. أحاول الفرار منه، فأرى البحر أمامي، فأكاد أسقط فيه من أعلى الجبل ..أصرخ، ويظل صوتي مخنوقًا.. ألهث.. أبكي بلا دموع .. أحس بالاختناق.. لامعين لي ..مازلت وحيدة، وهذا الرجل المقنع بالسواد يطاردني .. أمي ..أبي ..جدتي.. لاأحد يرد علي..لامعين لي.. ياويلي يكاد يقبض علي.. وأسمع صوتي بعد طول اختناق ينادي ياالله ..ياالله.. ياالله، أفتح عيني وأبي فوق رأسي يعيذني بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ آيه الكرسي.. أتكمش به وأطلب منه إبعاد الرجل المقنع وكلبه عني، فيدفنني في صدره ودموعي تغسل وجهي..

يتبع

الحقوق محفوظة

تعليقات تحرير

4 thoughts on “مذكرات سحاب(3)”

مذكرات سحاب 10-20

0

مذكرات سحاب(2)

 

 

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها 

مذكرات سحاب

11

أخبرتني جدتي لأبي اليوم بأن عمتي مهجة قد أنجبت بنتًا شقراء تشبهني.. فرحتُ كثيرًا بل طرت من الفرح، وطلبت من جدتي أن ترسل من يحضرني إليهم لأرى ابنة عمتي.. عمتي مهجة هي التي تعهدت تربيتي بعد أن أخذوني من أمي، لم تكن في ذلك الوقت قد تزوجت، فخصَّتني بحنانها وعطفها، وكنت أناديها بأمي، وبقيت معها في بيت جدتي إلى أن تزوجت، فأخذني والدي للعيش معه في بيته حيث سها وهدى ولم يكن سامح قد ولد بعد.. بكيت كثيرًا عندما أخذوا مني عمتي مهجة، فقد كانت صدر الحنان الذي عوضني فقدان الأم وحنانها، لم تشعرني عمتي مهجة بأنني عبء عليهم بل كانت تدللني وتحضر لي الحلويات والملابس الجميلة، وتصحبني معها أينما ذهبت، فبقيت مع جدتي العجوز وجدي إلى أن قرروا إلحاقي ببيت والدي.. أحس بأن الجميع يحبني ولكنه حب شفقة لما أنا فيه من وضع لاأحسد عليه.. أسرعي ياجدتي أريد رؤية ابنة عمتي مهجة سأحبها كما أحب سها وهدى وسامح.. وعندما رأيتها لاأدري لماذا انتابتني نوبة بكاء أخافت عمتي، فضمتني إلى صدرها وقالت لي: سحاب، نسمة هذه أختك الصغيرة، وسأحبكما معًا، رغم أنك سبقتِ نسمة بسكنى قلبي..

12

فكرت اليوم بترك كتابة مذكراتي فقد مللت منها، وتعبت من تذكر أحداثها المؤلمة، وسألت نفسي عن الفائدة التي سأكسبها من وراء كتابتها فهي ستظل سجينة الدفتر، ولن يقرأها أحد غير معلمتي، ولكنني سأكون في موقف حرج إن رأتها زوجة أبي، وقرأت ما كتبته فيها عنها، فإنها ستقيم الدنيا فوق رأسي، وستنتف شعري، ولن تسامحني أبدًا، ولكن ربما يشفع لي عندها عدم ذكري لما فعلته بي يوم حبستني في البلكونة مع الصرصور الطيار، وأنا أصرخ خائفة، وهو يحلق في أجواء البلكونة الضيقة كسوبر مان.. كان يومًا قاسيًا كدت أفقد فيه عقلي، بل كدت  أموت خوفًا من هذا الصرصور الكبير الحجم كجراده.. كانت تشاهدني من خلف زجاج الباب، وتشير لي تسألني إن أنا وافقت على جلي الصحون دون احتجاج، فأشرت لها بالموافقة، فأدخلتني إلى البيت قبل أن تخرج روحي من صدري على أن لاأخبر والدي بما حدث وإلا فإنها ستضربني، فوعدتها ألا أفعل، ولو انكسر ظهري من الوقوف على الكرسي أمام المجلى، وظل الدم يسيل من يديَّ بسبب التشقق الذي أحدثه فيهما معجون الجلي وقتًا طويلا لم يلحظ أبي منه شيئًا..

 

13

الضجيج يملأ بيتنا الليلة، فقد تجمع عندنا أهل زوجة أبي كلهم كبارًا وصغارًا، جاءوا ليحتفلوا بعودة سها من المستشفى بعد إجراء عملية استئصال الزائدة الدودية.. قامت خالتي بتحضير بعض المأكولات والحلويات في البيت إضافة لما اشتراه والدي من السوق.. زينتْ الغرفة التي سيتم فيها الاحتفال بالبالونات وأوراق الزينة، وأشترت لسها فستانًا جديدًا وآخر لهدى، أما أنا فقد أرسلت لي عمتي هيفاء فستان ابنتها لمى لألبسه في الاحتفال.. حزنت عندما وجدت الفستان واسعًا وطويلا جدا، لمى تكبرني بثلاثة أعوام، وفستانها لايليق بي لاختلاف المقاس.. نظرت في المرآة فوجدت كتفَي الفستان أعرض من كتفيَّ، والخصر واسع جدا، فشددت الحزام وربطته كي يبدو الفستان مناسبًا لخصري.. جاءت رحاب أخت خالتي، وسرحت لي شعري الأشقر، وعقصته بشكلة كبيرة تناسب الفستان الذي أرتديه.. وقفت مع المحتفلين بهذه المناسبة أشاهد مايجري، ولكن خالتي كانت تناديني كل دقيقة، وتطلب مني خدمة الحضور، أو الذهاب إلى قرب أخي الذي لم يهدأ طوال مدة الاحتفال، وبعدما ذهب الجميع ساعدتها بترتيب البيت، وتنظيفه وجلي الصحون بينما ذهب الجميع إلى النوم.. أحسست بالجوع يقرص معدتي، فأخرجت بعض الطعام من الثلاجة، وعندما وضعت أول لقمة في فمي دخلت خالتي المطبخ، ونظرت إلي بغضب وقالت : ألا تشبعين يابنت؟  ألا تعلمين بأن أهل والدك سيأتون غدًا وسنقدم لهم هذا الطعام؟ أجبتها: هذه أول لقمة أتناولها منذ الغداء، ونحن الآن بعد منتصف الليل، قالت بغضب: أتتهمينني بالكذب ؟ وقبل أن أجيبها كانت يدها تصفع خدي فتخرج اللقمة من فمي، وعيناي تذرفان الدموع ..

 

14

جلست منزوية هذه الليلة على غير عادتي بوجود أهلي لأبي عندنا في البيت.. حاولت جدتي إخراجي من صمتي المقلق فلم تنجح، فاقتربت مني عمتي مهجة وسألتني بصوت منخفض عما بي فلم أجبها.  ملأت لي صحنًا من الطعام الذي أحبه ،فرفضت أخذه منها.. سألني والدي عما بي فلم أنطق بكلمة، وحاول جدي العجوز إضحاكي ببعض النكات فلم أضحك.. كانت زوجة أبي ترمقني خلسة من بعيد، وعندما تلتقي عيوننا كنت أطبق جفوني.. اقتربت مني بهدوء، ولكزتني بكوعها في خاصرتي وهي تبتسم للحضور، فتعمدت الصراخ أمام الجميع كي أعلمهم بما فعلت بي.. أصاب أهلي القلق من جراء صراخي المفاجئ، فأسرعت عمتي مهجة وضمتني إليها وسألتني عما بي، فقلت لها بصوتٍ مرتفع وأنا أجهش بالبكاء: لكزتني في خاصرتني فآلمني قلبي.. فتعالت أصوات الاستنكار وكلمات التوبيخ لها مما جعلها تترك المكان إلى غرفتها، وكان أبي في موقف حرج لايحسد عليه محتارًا بين زوجته وتوجعي وأهله ..

 

15

لن أسكت لها بعد اليوم فماتفعله بي لايحتمل ..لاأدري لماذا لاتعامل ابنتها كما تعاملني ونحن متقاربتان سنًا ،أنا لست خادمة لها ولا لأولادها .صحيح أنا أحب سها وهدى وسامح، ولكني لست خادمة لهم ،ولسوف أتحداها كما فعلتُ اليوم إن هي عادت لمضايقتي ..سمعتها ذات يوم تطلب من والدي أن يعيدني إلى بيت جدتي، ولكنه رفض فهو لايريد أن يربي أولاده متفرقين ،ليتك قبلت عرضها هذا ياأبي ليتك..كنت سأتفرغ حينئذ لدراستي لالجلي الصحون وتنظيف أرض البيت بمكنسة تقارب طول جسدي الصغير. لقد طلبت مني ذات مرة أن أكوي بعض ملابس هدى فاحترق فستانها الأخضر ،وعاقبتني بحرماني من مصروف المدرسة رغم أن أبي كان يضع النقود في يدي قبل أن أذهب إلى المدرسة ،فكانت تلحق بي إلى باب البيت وتعطيني لفافة خبز وزعتر ،وتسترجع مني المصروف ،وهددتني بالضرب إن أنا أخبرت والدي بذلك فلم أفعل ..ياربي أحس بالألم يقطع قلبي كلما فكرت بما أنا فيه ..وكثيرا ما أتمنى أن أكون مثل بقية الأطفال الذين يعيشون بين أبويهم فلا ينكد حياتهم مايزعج ..

 

16

جهزت ثيابي وكتبي في حقيبة صغيرة أخذتها معي إلى بيت جدتي بعد أن عادت أمي إلى البيت بشرط ألا أكون فيه ،اضطر والدي للرضوخ لما تريد من أجل سها وهدى وسامح ،فقد رفضت جدتي لأبي العناية بهم ،فهي امرأة متقدمة في السن وصحتها لاتسمح لها بذلك.أخبرني أبي ونحن في طريق ذهابنا إلى بيت جدتي، بأن بقائي عندها لن يدوم طويلا، وسيعيدني إلى البيت عندما تهدأ أمي وتنتهي المشاكل التي حصلت بسبب سوء التفاهم بيننا ..أبي يقول بأنه سوء تفاهم، ولكن هل يستمر سوء التفاهم بين امرأة طويلة و طفلة صغيرة مثلي سنواتٍ تقارب نصف عمرها ؟هذا ماأذكره من تصرفاتها معي ، وما جهلته ربنا وحده يعلم به..فرحت وأنا أدخل بيت جدتي التي استقبلتي بأحضانها الحنونة وحمدت ربي أن خلَّصني من ظلم زوجة أبي لي .وعندما رآني جدي في البيت زيَّنت ابتسامته وجهه المتعب، فهو يعاني من المرض منذ أكثر من شهرين ..وعند الغداء وصلت عمتي بهيجة ،ومها ابنتها الجميلة بسمة وجلسنا نتناول غداءنا الذي أحضرته معها من الطعام الذي أحبه ، فهي تعلم بأن الملوخية هي أحب الطعام إلي ..مضى النهار وأنا ألاعب بسمة التي تشبه عمتي بهيجة ،وسمعتهم أكثر من مرة يقولون بأنني أشبه إلى حدٍّ كبير عمتي ..

 

17

حكت لي صديقتي نهاد سالم قصة عجيبة تحدثت فيها عن فتاة شابة كانت تحب قراءة القصص كثيرًا، ومما قرأته قصة عن ظلم زوجة أب لابنة زوجها، فكانت هذه الشابة تبكي بحزن شديد على الطفلة المظلومة، فقررت أن تتزوج من رجل ماتت زوجته، وتركت له طفلة صغيرة كي تربيها وتعطف عليها، ومرت الأيام وحقق الله لها أمنيتها، فقد تقدمت بها السن ولم تتزوج إلى أن خطبها رجل توفيت زوجته، وهي تلد ابنتها، فرحت كثيرًا وحمدت الله لأنه حقق لها رغبتها، وسوف تقوم بتربية الفتاة أحسن تربية، وتعطيها من وقتها واهتمامها الشيء الكثير ،وكان لها ذلك فقد أحبت الصغيرة ودللتها كثيرًا إلى أن أنجبت ابنتها الأولى، فبدأت تنفر من ابنة زوجها رويدا رويدا، وتبدلت معاملتها لها من المحبة واللطف ، إلى القسوة والضرب، والفتاة صابرة حتى أن أهل زوجة الأب كانوا يشفقون على الصغيرة أكثر من ابنتهم، وظلت تذيقها مرَّ العذاب إلى أن تزوجت، فأراحها الله من زوجة أبيها الظالمة التي لم تتق الله.. عندما سمعت هذه القصة من صديقتي نهاد التي كانت تواسيني ونفسها سألتها: لماذا تتغير معاملة زوجة الأب للصغيرة بعد أن أنجبت طفلتها الأولى؟ فقالت لي نهاد: لاأدري رغم أنها هي التي تمنت الزواج من رجل له طفلة أمها ماتت..
ظل هذا السؤال يشغلني ومازال وأنا أحاول أن أجد له جوابًا يريح قلبي من الحيرة .

 

18

وقفتُ أمام المرآة وأنا أمشط شعري الذهبي في بيت جدتي لأمي.. كنت سعيدة جدااليوم، لأن اجتماع خالاتي وأولادهم تقرر أن يكون يوم حضوري إليهم .. صحبتني جدتي إلى السوق، واشترت لي فستانًا جميلا كي أرتديه اليوم.. أحببته جدا فأنا التي إخترته شخصيًا بلونه الأبيض والزهري الساحر، كما اشترت لي شرائط من الساتان الزهري، فرحت أضعها فوق شعري أزين بها رأسي . مازلت أنظر في المرآة بإعجاب وفرح، ودون قصدٍ مني وقع نظري على صورة معلقة على الحائط المقابل للمرآة.. نظرت إليها فرأيت وجهي والصورة داخل المرآة .. رحت أنقل النظر بين أنا وصورة والدتي تلك.. لاحظت أنني أشبه أمي إلى حد كبير.. ما أجملك ياأمي وما أرق قلبك.. لاأدري لماذا خطر ببالي أن كره زوجة أبي لي، ربما كان بسبب هذا التشابه الكبير بيني وبين والدتي.. نعم ولمَ لايكون كذلك، فوجودي عند أبي سيذكره بأمي دائما، وهي تخشى أن يعود إليها ثانية قبل أن تتزوج ..يااااه ماأذكاني من فتاة.. سأعود إلى بيت أبي مهما كان الثمن، فقد أستطيع إعادة أمي إليه عندما لاتغيب صورتها بي عن ناظريه، خاصة وأنه كما سمعت من جدتي لأبي بأنه أرغم على طلاقها وهو مازال يحبها ..

 19

هرب النوم من عينيَّ الليلة ،وراحت الهواجس والمخاوف تلعب بي كيفما شاءت ،وكأن لها أيد ضخمة ،وأصابع طويلة ثخينة ، تعلقني بها من شعري ، وتأرجحني في الفضاء ،وأنا خائفة أريد أن أصرخ ، فلاأستطيع ..أحس بأن فمي مطبق وشفتيَّ قد أخيطتا بالصمت الرهيب..الوحدة مخيفة .. تأكل الأعصاب وتهدُّ الحيل، وبيت جدتي واسع تحيط به النوافذ المطلة على الحديقة ..كنت أسمع صوت شخيرها ،وجدي يأتي إلى مسمعي ، وكأنه صوت عاصفة كالذي نسمعه في المسلسلات والأفلام ،حتى أني كنت أتخيله صوت شبح مبحوح يناديني كي يقتلني ،فأدفن رأسي تحت الغطاء ، وأصابع يدي في أذني ثم أنهض من سرير عمي هاشم المسافر إلى أمريكا، فأتمشى في الغرفة بعد إضاءة النور فيها علني أخفف عن نفسي من وطأة الرعب هذا ،أو يوقظ النور جدتي فتأتي إلي ..أخيرًا لجأت إلى دفتر مذكراتي في محاولة للهروب مما أنا فيه ،وجلست أسجل مايخطر ببالي علني أسلي نفسي بالكتابة ريثما يداهمني النوم، ويريحني من ثقل الهواجس ..شعرت بالوحدة تنهشني بأنياب الغربة عمن حولي ..وحيدة أنا دون أم ولا أب ، يتيمة وهما على قيد الحياة ،ترى أيهما أصعب بالنسبة للأولاد ، موت الوالدين أم طلاقهما ؟

 20

فرح أبي بعودتي إلى البيت كذلك سها وهدى ، وعدت إلى جلي الصحون، وتنظيف الأرض، ولكن دون أن تطلب خالتي ذلك مني، فقد بدت لينة بعض الشيء بعد ماحصل سابقًا، ووافقت على عودتي إلى البيت بعد أن هددها أبي بالطلاق عندما طلبت منه جدتي وجدي ذلك، نزولا عند رغبتي وإلحاحي عليهما بدموعي الغزيرة التي تحزنهما. كان في رأسي بداية أن أنتقم لأمي بقهر خالتي زوجة أبي بعد أن فهمت لماذا تكرهني ، وبدأت بالظهور أمامها دائما وأنا مسرحة شعري وابتسامة على وجهي دون أن أظهر لها تعبي، فوجدتها سعيدة بعكس ماكنت أتوقع، وراحت تمتدحني أمام والدي وتشيد بي وبما أقوم به من أعمال حتى أنها وعدتني بزيارة حديقة الحيوانات.. خاب ظني بي وبذكائي الذي حسبته عالي الكعب. ورحت أسأل نفسي عما إذا كانت تعرف أمي أو رأت صورتها يومًا.. لاأدري كيف سأعلم هذا، وأنا لا أستطيع معرفة ذلك منها، فقررت أن أسأل أبي هذا السؤال فهو يحبني ولن يغضب مني .
أجابني ودمعة تلوب فوق جفنه.. لاياسحاب لاتعرفها، فقد أرسلت لأمك كل صورها التي كانت عندي لأنها لم تعد زوجتي فلا يحق لي رؤية صورها بعد الطلاق.. فقلت له: ولكنها أمي وأنت أبي فلم يحرم عليك رؤية صورها؟
أجابني بهدوء: قلت لك ياابنتي إن الشرع يحرم ذلك، ولو كان لنا مئة ولد، فبعد الطلاق تصبح المرأة كالغريبة عن طليقها، ولايحق له رؤيتها دون حجاب هكذا أراد الله عزَّ وجل ..
تأكد لي الآن أنني كنت واهمة وأن تعبي ضاع سدى، ولكني حمدت الله عزَّ وجل على أنني كسبت رضاها بما قمت به من أعمال بيَّضت وجهي أمامها.. سأتابع ماأنا عليه وأحمد الله أن ألهمني فعل الخير، فقد كان لغاية في نفسي، فلم تتحقق ولكنني كسبت حسنات بها بإذن الله .

يتبع

الحقوق محفوظة

تعليقات تحرير

9 thoughts on “مذكرات سحاب(2)”

  1. سيدتي الكريمة بنت البحر زاهية
    قرأنا بعض النصوص المترجمة من هذه المذكرات ، ليتك سيدتي الفاضلة تنشرينها في المدونة.
    اعذري تطفلي \ أخوكِ\ عبد الوارث

  2. نور, on مايو 15, 2010 at 10:27 م said: تحرير التعليق
    ياربي قديش فيه ناس مايخافوا الله
    حبيبتي سحاب ربنا معاك

    —-
    أختي المكرمة نور
    أهلا بك ومرحبا ، آسفة لتأخري بالرد عليك
    لك تحيتي وتحية سحاب على حضورك الجميل
    أختك
    زاهية بنت البحر

  3. حفيظة الدين, on مارس 11, 2011 at 11:50 ص said: تحرير التعليق
    رغم حزنها فهي تشدّ للقراءة.. أسلوب مميّز وعذب
    بارك الله فيك كاتبتنا
    —-
    حفيظة الدين أختي المكرمة
    أهلا ومرحبا بك ، أشكرك على الحضور والكلمات الجميلة
    بارك ربي فيك وحفظك
    أختك
    زاهية بنت البحر

  4. عبد الوارث محمد علي, on أبريل 15, 2011 at 3:37 م said: تحرير التعليق
    سيدتي الكريمة بنت البحر زاهية
    قرأنا بعض النصوص المترجمة من هذه المذكرات ، ليتك سيدتي الفاضلة تنشرينها في المدونة.
    اعذري تطفلي \ أخوكِ\ عبد الوارث

    ——
    عبد الوارث محمد علي أخي المكرم
    أرحب بك مشاركا وقارئا ، بارك ربي فيك ورعاك
    بالنسبة لترجمة بعض النصوص من مذكرات سحاب فقد قامت الأستاذة الأسترالية منى هلال بترجمة ذلك وهي موجودة في موقع نور الأدب وبإذن الله سأنشرها هنا عندما أجد الفرصة لذلك، على أمل ان نحصل من السيدة منى على ترجمات أخرى منها. تحيتي لك وللغالية أستاذة منى هلال.

    أختك
    زاهية بنت البحر

مذكرات سحاب 1-10

0

مذكرات سحاب(1)

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

 مذكرات سحاب

1
يقولون بأني مازلتُ صغيرة.. أجل أنا كذلك فسنواتي التسع قليلة بالنسبة لسنوات أعمارهم الطويلة كنخلة، ولكنهم يعرفون أيضًا بأني ذكية جدًا، وأفهم الكلام ولو تلميحًا، سمعتهم يقولون: (كونوا حذرين عندما تتكلمون أمام سحاب، فهي شديدة الانتباه، ولاتفوتها كبيرة ولاصغيرة دون أن تفهمها، وتعرف ماوراء القصد منها).
أجل صدقوا، وكم تمنيت ألا أكون كذلك لأنه يسبب لي الكثير من جراح النفس لفرط حساسيتي تجاه ماأسمعه مما يقولون، خاصة أثناء كلامهم عن أمي المطلقة وعن أهلها، وأيضًا عندما يريدون القيام بعملٍ ما، ولايريدونني أن أكون موجودة
، فيضطرون لإخراجي من مجلسهم بحيل لاتنطوي علي، ويرجعون ذلك أحيانا إلى فطنتي المكتسبة من مورثاتي من أمي، فأهلها معروفون بالذكاء والعلم، بينما أهلي لأبي هم متوسطو العلم، لن أقول عنهم جهلة، ولكنَّ الدهاء لاينقصهم فيكون أحيانا في غيرصالحهم لقربه من الخطأ أكثرمنه إلى الصواب، ولكنهم يحسبونه الصحيح دائما خاصة ماتقوله عمتي الكبرى ربيحة، فرأيها أهم من رأي الجميع .. 

 

ذات يوم كنت وأختي سها نشاهد برنامج الأطفال في غرفة الجلوس، وكانت (زوجة أبي )ترضع أخي الصغير سامح، بينما جلست أختي هدى تلعب بدميتها الشقراء التي أحضرها لها خالها سعيد في عيد ميلادها أول أمس.
أثناء مشاهدتنا البرنامج، استضافت المذيعة طفلة صغيرة حلوة الضفائر، تزين شعرها شرائط من الساتان الأحمر المزركشة بألوان فستانها المليء بالزهور، والورود الخلابة التي شممت رائحة عبيرها تفوح في أجواء غرفتنا الصغيرة من شدة تأثري بجمال الفستان وشرائط الساتان.
تمنيت أن يكون لي فستان مثله، أوشكت دمعتي أن تنساب فوق خدي الذي تلون بحرقة الأمنية هذه، لكنني أمسكت الدمعة بجفوني وأنا أرى زوجة أبي ترمقني بنطرات غريبة، لحظات صمت مرَّت ثقيلة على نفسي طلبت مني بعدها إغلاق التلفزيون، والذهاب إلى غرفتي مع سها لتحفيظها دروسها بحجة أني أكبر منها بعام، وأسبقها بصفٍّ في المدرسة.
التقطت دمعتي بباطن كفي وأنا أغادر المكان إلى غرفتي بصمت. انتظرت سها طويلا.. لم تحضر إلي.. صوت صاحبة الفستان المزهر يعود.. يعلو.. يخترق أذني، وهي تردد أغنية جعلت دموعي تتدفق ساخنة لم أستطع كبح جماحها المتوتر بالحزن والألم.. تسربت ملوحتها إلى فمي.. ألهبت تشققات شفتَي.. هيجتْ أنين روحي، فقررت كتابة مذكراتي كما تكتب صديقتي تالا مذكراتها.

3

في المساء وبعد أن تأكدت من نوم الجميع، أخذت من حقيبة المدرسة دفترًا صغيرًا كانت المعلمة قد طلبته منا لكتابة الملاحظات على الدروس في البيت والمدرسة، وكان مايزال ممتلئا بالصفحات البيضاء، فقررت الكتابة في النصف الثاني منه، وهذا لن يؤثر على ماأكتبه في النصف الأول، خاصة وأن العام الدراسي أصبح على وشك الانتهاء .
أضأت نور الغرفة الخافت، وجلست على حافة سريري بهدوء كي لاأحدث حركة قد توقظ سها من النوم، وتبدأ بالبكاء فتأتي  خالتي وتؤنبني .
بدأت أفكر في كل ماأذكره من أحداث مرت بي منذ أن وعيت الدنيا، وأنا في بيت جدتي لأبي بعد أن أخذوني من أمي عندما رفض أهلها إعادتها لأبي، وتم طلاقها وأنا مازلت جنينًا .
قلبي الآن يرتجف خوفًا من أن تستيقظ خالتي، وتراني أكتب مذكراتي.. أنا لاأعرف ماهي المذكرات ولكن صديقتي تالا أخبرتني بأنها تكتب كل يوم مايحصل معها كي تتذكره في المستقبل، أعجبتني الفكرة، وبدأت الآن بتنفيذها والجميع نائمون ..
بصراحة ما شجعني على الكتابة اليوم هو تصرف زوجة أبي معي وأنا أشاهد صاحبة الفستان المزهَّر في التلفزيون.. لقد شعرت بكسر خاطري من قبلها، فلو كانت هي أمي التي أنجبتني لاختلف الأمر كثيرًا.. كنت سأتدلل عليها كي أبقى أمام الشاشة، وأيضًا كنت سأطلب منها شراء فستان جميل مزهَّر، وشرائط ساتان مزركشة، وسألبس الفستان، وأزين جديلتي بالشرائط، وأغني أمامه،  وهي تصفق لي سعيدة.  لماذا ياأمي تركتِ ابنتك لزوجة أبيها؟ ماذنبي أنا كي يكون عقابك لأبي وعقابه لك بي؟ هاأنا وحيدة بيني وبين نفسي لاأحد يحس بوجعي.. كانت جدتي أرحم بي من زوجة أبي رغم أنها تخاف منه كثيرًا، فهي تعلم كم هو يحبني، ويغضب إن علم بما يضايقني، ولكنني لاأحب مضايقته، فلا أخبره بما يحدث في البيت أثناء غيابه ..سأنام الآن لأن قلبي يبكي وعيني تحرقني من النعاس.

4

وقفت الليلة على شاطئ الحزن.. كان البحر هائجًا يهاجمني بأمواجه السوداء ذات الأنياب الطويلة، والأظافر الحادة كالذئب الذي افترس جدة ليلى. كنت أرى عينيه الحمراوين يتطاير منهما شررٌ مخيف يقع في قلبي حارقًا، فنوافذه وأبوابه ليست محمية بصاداتٍ من دفء وحنان تحميه من مهاجمة جيوش الألم له بكف الظلم من أقرب الناس لي . في هذه الليلة، وقبل أن أستلقي في فراشي، وألجأ إلى دفتر مذكراتي الصغير كاتم أسراري، كنت في غرفة الجلوس مع خالتي وأخواتي،  فنظرت إلي بابتسامة رقيقة، وطلبت مني الذهاب للنوم دون أن تطلب من أختي ذلك.. خرجت من الغرفة دون اعتراض الذي لايحق لي أصلا، ذهبت إلى المطبخ لتناول كأسٍ من الماء، وأنا في طريقي إلى غرفتي سمعت خالتي تهمس لسها قائلة: سنأكل معًا آيس كريم عندما تنام سحاب. دخلت غرفتي حزينة، تخنقني غصة مفاجئة.. هاهي زوجة أبي تطردني من الغرفة بطريقة لبقة لتأكل الآيس كريم مع ابنتها، وهي تعرف مدى شغفي به، دون أن تفكر بالمساواة بيني وبين أختي، وبأنَّ أبي هوالذي يدفع ثمن الآيس كريم وليست هي، ولا أهلها. سامحك الله ياأمي ليتك تحضرين لي آيس كريم، سآكله هنا في غرفتي دون أن تراني زوجة أبي البخيلة.

5

بدأت القصص التي عشتها سابقًا بالهجوم على رأسي الصغير، تطلب مني أن أسجلها في النصف الثاني من دفتر الملاحظات.. ولكنها كثيرة، ومتنوعة، ولكل قصة منها حادثة مختلفة، لذلك سأسجل مايخطر ببالي أولا، وأتمنى أن أكمل كتابة المذكرات كلها، ثمَّ أعطيها بعد ذلك لمدرستي علية في المدرسة، كي تحفظها لي عندها في خزانة الصف..
أنا أحب معلمتي كثيرًا فهي طيبة جدًا وحبوبة، وهي أيضًا تحبني، ودائمًا تناديني في وقت الفرصة، وتعطيني بسكويت بالشوكولا.. وهي دائمًا تقول لطلاب الصف كونوا شاطرين مثل سحاب. قالت لي ذات يوم بأنها تعرف أمي، فهي صديقة خالتي صباح..  وتزور بيت جدي لأمي دائما، فرحت كثيرًا عندما أخبرتني بذلك، وازددت محبة لها، وكثيرًا ما كانت تسامحني عندما أحضر إلى المدرسة دون كتابة وظيفتي بسبب أعمال البيت التي أساعد بها زوجة أبي، فأنا التي أجلي الصحون بعد الطعام، وأنظف البيت عندما تكون هي مشغولة بالطبخ.. كنت صغيرة جدًا عندما بدأت تعلمني كيف أجلي الصحون، فكانت تضع لي كرسيا صغيرًا لأقف فوقه كي أطال الحوض الذي أنظف فيه الصحون والكاسات، ولكن يدي صغيرة لاتستطيع تنظيف الطناجر الكبيرة، فكانت هي التي تنظفها. جلي الصحون والملاعق يؤلم الظهر بسبب الوقوف فوق الكرسي.. قلت لوالدي ذات يوم إن ظهري يؤلمني من تنظيف الصحون كل يوم، فغضب غضبًا شديدًا وقال لزوجته: مازالت سحاب صغيرة على مثل هذا العمل.. اتقي الله فيها، فقد يتعرض أولادك لمثل ماتتعرض له سحاب إن قدَّر الله فطلِّقتِ، أومتِّ بعد عمرٍ طويل.. فصرخت به قائلة: لا يا حبيبي، أنا لست كأم سحاب يأكل القط عشائي.. أنا مهري غالي ياأبا أولادي، وظهري قوي. فصمت والدي ولم يعد يقول شيئًا عندما يراني واقفة فوق الكرسي وأنا أنظف الصحون، فقد سبق له أن أجبرته المحكمة على دفع مهر أمي عندما طلبت منه الطلاق.

6

استيقظت الليلة على صوت الرعد وكان النور مطفأ في الغرفة، ولكن البرق كان يضيء أرجاءها فأرى محتوياتها بشكلٍ واضح تمامًا.. كان باب الغرفة مغلقًا وأختي مازالت نائمة والبيت يسوده الهدوء.. أحسست بالخوف وأنا أسمع الرعد يتكرر، فأظن بأن الدنيا تنفجر وأن القيامة قد قامت فالصوت قوي جدًا.. نهضت من سريري، نظرت من النافذة إلى الخارج، فرأيت خيوط المطر تصل الأرض بالسماء.. أحسست بالخوف عندما فاجأتني خالتي وهي تفتح الباب وتسألني عما أيقظني باكرًا.. عقدت المفاجأة لساني فلم أجبها ، عدت إلى سريري، وتدثرت بغطائي.. فقالت لي: لاتغادري سريرك مرة ثانية كي لاتستيقظ أختك فتخاف من صوت الرعد، فسألتها بصوت هامس: هل سيستمر الرعد طويلا ؟
أجابتني وهي تغادر الغرفة: الله أعلم
وضعت أصبعيَّ بأذني َّ لمنع وصول صوت الرعد وقرأت سورة الإخلاص، وصورة أمي التي ولدتني تجسَّد في خيالي.

 

7

في بيت جدي لأمي التقيتها بعد فراق دام أكثر من ثلاثة أشهر.. أجل أكثر ربما أربعة.  أحيانًا أفكر كيف تستطع أمي تحمل بعد ابنتها الوحيدة عنها كل هذه المدة! أنا أشتاق إليها كثيرًا، وأحبها كثيرًا، ولاأدري لماذا لاتطلبني لزيارتها كل يوم جمعة مثل أم صديقتي نهاد سالم، فهي ترى أمها كل يوم جمعة، وأحيانا أكثر من مرة في الاسبوع، تأخذها إلى حديقة الحيوانات فترى القرد والغزال ـ  والطيور والأسماك والقط سوني، هي أسمته سوني لأنها تلاعبه وهو في القفص، وذات مرة خرمش يدها بأظافره، أتمنى أن تأخذني أمي إلى هناك لأرى سوني وألاعبه ولكن دون أن يخرمش يدي. نهاد أيضًا مثلي والداها مطلقان، وهي تعيش في بيت أبيها، وكثيرًا ماتحدثني عن ظلم زوجته لها، وأحيانًا تتعرض للضرب من أبيها إذا لم تقم بمساعدة زوجته، أو إذا ردَّت عليها بكلمة تزعجها.. أحمد الله أن أبي لايضربني، ولايسمح لأحد بضربي، ولكنه لايعلم بأنه السبب في حزني الدائم.. ليته يعلم فيعيد أمي إليَّ، فهي مازالت في بيت جدي، ولم تتزوج كأم نهاد.. أحب أمي وأبي ولكني أتساءل عما إذا كانا يحباني كما أحبهما، فلو كانا فعلا يحباني فلماذا تطلقا، وجعلاني أحرم من عطفهما معًا؟ ليت أمي تعود لأبي وتنجب لي أخًا وأختًا، وتذهب زوجة أبي إلى بيت أهلها دون أن يذهب معها أولادها فهم أولاد أبي ومن حقه الاحتفاظ بهم معه..

8

طرد أبي زوجته وقرر إعادة أمي إلى البيت، كنت فرحة جدًا بينما كانت سها و هدى وأخي سامح يبكون بصوت مزعج، وأنا أحاول أن أصبرهم ريثما يأتي والدي ومعه الطعام لنا.. ذهبت إلى المطبخ لتحضير بيبرونة سامح، ووضع الحليب فيها ليسكت.. وعندما بدأ يرضع منها صرخ بصوت عالٍ، وأزرق وجهه،وانهمرت الدموع من عينيه الجاحظتين، وفتح فمه، خفت كثيرًا، وظننت أنه يختنق بالحليب الساخن جدا، بينما راحت سها وهدى تبكيان.. لم أدرِ ماذا أفعل بهذه الورطة، فرحت أصرخ بأعلى صوتي ماما..ماما.. ماما.. شعرت بيدٍ فوق رأسي وصوت يناديني.. سحاب.. سحاب.. مابك؟
فتحت عيني فوجدت خالتي أمامي وهي تحمل سامح فسألتني: مابك لماذا تنادين ماما? حتى في المنام تفكرين بها؟
فقلت لها وأنا أبكي.. كان حلمًا مزعجا.. أرجوكِ لاتتركي البيت، فنحن بحاجة لك ..
ابتسمت بسعادة وناولتني كأسا من الماء كان فوق المكتب وقالت :لاتخافي لن أترك البيت أبدًا ..
حمدت الله على أن مارأيته كان حلمًا، وعدت إلى النوم وقلبي مطمئن، ولكنني حزينة لأن أمي لن تعود إلي . 

9

قلت لأمي وأنا أمسك يدها بما لدي من قوة خشية أن تفلت من يدي الصغيرة :أريد أن أكون معك هنا في بيت جدي فأنا أشتاق لك كثيرًا ياأمي وأحب أن أناديك بأمي لأنك كذلك أما زوجة أبي فليست بأمي.. أحس بأنني أسخر من نفسي ومنها وأنا أقول لها أمي ..نظرت في وجهها فرأيت دموعها تجري فوق خديها.. تأثرت لأني كنت السبب في بكائها، فتطاولت على رؤوس أصابع قدميْ، ومددت يدي كي أمسح بها دموعها، أحسست بسخونتها، فرحت أجمعها وأمسح بها وجهي، فنظرت إلي وسألتني: بحيرة: ماالذي تفعلينه ياسحاب؟
أجبتها: أمسح وجهي بدموعك الغالية ياأمي، فأنا لاأريد أن يسعد بها غيري .
فسألتني: وهل دموعي تسعدك ياابنتي؟
أجبتها: نعم ولا.
فسألتني: كيف هذا؟
أجبتها: نعم لأنها دليل حبك لي، ولا لأنها دمعة حزن ..
ضمتني إلى صدرها الدافئ الحنون الذي أحلم به في ليالي البرد، فأحسست بأنَّ لي صدر أمٍ بوسع الدنيا..

10

أمي أجمل امرأة في العالم.. أحب ابتسامتها التي تشبه نور الشمس لأنها تدخل قلبي المسكون بالحزن فتضيئه.. وجهها أجمل من البدر لأنها تبتسم لي في ليالي أحلامي المخيفة فيطمئن قلبي.. يداها أرق من أيدِي النساء ، فبها تمشط شعري وتغسل وجهي، وتطعمني كل ما أطلبه منها.. يارب أعد إلي أمي.. دائمًا أرجوها أن تعود إلينا، وتعيش معنا في بيتنا مع أبي، ولكنها ترفض ذلك، وعندما أسألها عن السبب تقول لي:عندما تكبرين ياسحاب ستعرفين كل شيء ياحبيبتي ..
أعرف بأن أمي تحبني ولكن هل من تحب أبنتها تتركها تعيش مع امرأة غريبة وتقول لها أمي ؟ أليس هذا ظلمًا؟ أحيانا أحس بالغيرة من أختي سها عندما تحضنها أمها وتقبلها، وأنا أنظر إليهما بحزن، فتطلب مني الخروج من الغرفة، أوالذهاب إلى المطبخ لغسل الصحون، أو الذهاب إلى سريري للنوم.. بت أكره النوم كثيرًا فهو لايجلب لي غير الكوابيس، وأحيانا أرى أمي في المنام، ويدها تمسك بيدي، ونحن نركض معًا في حدائق مزهرة فيها أشجار عالية، وقمر ونجوم ، فتقطف لي الفاكهة فآكلها، وتقطف النجوم من السماء، وتزين بها دفاتري، فيدُ أمي تطالها.. يارب اجعلني أكبر بسرعة كي أعرف لماذا انفصل أبي عن أمي، فقد أستطيع الجمع بينهما عند معرفة السبب.. مازلت في بيت جدي ألاحق أمي خطوة خطوة في المطبخ، وغرفة الجلوس، وفي غرفة النوم وحتى وهي تتوضأ كنت أقف أمامها لأتعلم طريقة وضوئها التي لاتختلف عن طريقة وضوء أبي وزوجته.. بعد أن انتهت أمي من الوضوء رحت أتوضأ كي ألحق بها لصلاة العشاء.. كانت أمي قد بدأت بالركعة الثانية عندما أنهيت ارتداء ملابس الصلاة الخاصة بي، ووقفت باتجاه القبلة فوق سجادة صلاة صغيرة أحضرتها لي جدتي من مكة المكرمة، عندما عادت العام الماضي من الحج.. صليت فرض العشاء، وأنا أحس براحة كبيرة بين يدي الله عزَّ وجل.. أحبك يا ربي.. فساعدني بالإصلاح بين والدي فأنا أحبهما كثيرًا ولا أريد أن يظلا مفترقين خاصة بعد أن سمعت اليوم حديثًا يدور بين أمي وخالتي بشأن العريس الذي تقدم لخطبة أمي.. لاأريد لها الزواج من غير أبي.. لاحظت أمي حزني وهي تودعني عندما أمسك خالي محمود بيدي، وخرج بي من البيت ليوصلني إلى بيت أبي المعتم بما أعانيه من مشاكل الحياة..

يتبع

الحقوق محفوظة

 

تعليقات تحرير

26 thoughts on “مذكرات سحاب(1)”

  1. زانه محمد أختي المكرمة
    نعم هو كذلك أدعو الله أن يجنبنا الظلم والظلام
    أهلا بك ومرحبا أسعدني حضورك
    أختك
    زاهية بنت البحر

  2. زاهية أنت أديبة متميزة ، ولعلي استشعر فيما تكتبين قطباً من أقطاب الشعر وهو تميم البرغوثي إذ يخضع هذا الشاعر أفكاره للتدافع دون قيد فيكون أقرب للنثرية وها أنت تقتربين بلغة الانزياح والتدافع إلى الدفقات الشعرية في إطار قصصي فيه من عفوية الفكرة ما يهب النص الكثير من الصدق الفني .
    كما أن نصك يحفل بتوظيف الحاجيات الأنثوية المعاصرة في جسارة لا تقلل من قدر اللغة ولا تفضح فنية الفكرة ، لكنك يا عزيزتي كنت أكثر مكاشفة في المقطع الأخير من نصك ، هذا المقطع أعتقد أنه كتبت نهايته بعد انتهاء القصة ، وكأنه حالة من الإلحاح في طرح الفكرة ، وهذا فضول الكتاب ، بداية من ( لماذا يا أمي …) وجدت أنفاسك في القصة فضاعت مني لمحة الصدق التي غلفته من البداية ، وأحسست بوجودك .
    زاهية أنت قاصة بارعة ، لديها عفوية في الطرح ، وسبك جيد للأحداث

    د. مسعود عبد الهادي

  3. يسعدني نقل تعليق الدكتور مسعود عبد الهادي على المذكرات الثلاث الأولى هنا، وأطمح لمتابعة التعليق على باقي المذكرات هنا أو في المقهى الأدبي.
    شكرا جزيلا دكتور مسعود عبد الهادي أخي المكرم
    جزاك الله عني خير الجزاء
    أختك
    زاهية بنت البحر

  4. يتبع

    الحقوق محفوظة

    أشكُّ في كلِّ شيء، إلا في “أنْ تكون الحقوق محفوظة” فكلامُكِ لا يُقلّد، ولا يتعرّض لشيء اسمه “النحل”.

    أ. محب الأستاذ عطا موسى
    مقهى اللغة العربية وآدابها

  5. أضحك الله سنك وأسعدك في الدارين
    رائع ماجئتَ به
    راااائع
    جزيت الفردوس الأعلى أخي المكرم
    محب الأستاذ عطا موسى
    والله يستحق هذا الكلام النقل إلى مدونتي
    شهادة أعتز بها
    أختك
    زاهية بنت البحر

  6. عندما قرات اول دفعة من القصة .. احسست بشئ يجذبني لإكمال جميع اسطرها….

    الغريب .. انك كتبت أسطر من المعاناة المتكررة والمشاهد التي شاهدتها بعيني منها…

    فكانت تضع لي كرسيا صغيرًا لأقف فوقه كي أطال الحوض الذي أنظف فيه الصحون والكاسات، ولكن يدي صغيرة لاتستطيع تنظيف الطناجر الكبيرة،

    هذا المنظر.. شاهدته..وأنا في أحد الدول الــ ** وحزنت كثيرا…على تلك الفتاة الصغيرة..

    وها هو المشهد يكرر نفسه في هذه السطور التي تلامس الواقع…وكأنها تجسد معاناة تلك الفئة وتلك الطفولة الضائعة بين براثن اللا قيم ولا أخلاق..

    اسمحي لي بأن أسجل اعجابي بما عبر لنا قلمك عن واقع مرير.. بقدر ما اعجبني اسلوبك السردي الشفاف.. وكأن روح طفلة قد سكنت قلمك انذاك..

    اعجابي وتحياتي

    أ. دينا الطويل

    نور الادب
    ———–

  7. لازالت زوجة الأب في مجتمعاتنا تحافظ على تلك الصورة القاسية التي عهدناها في حكايا الطفولة مع أن الزمن تغير و الوعي ازداد و المجتمعات صارت أكثر انفتاحا و هذا أمر غريب ومؤسف في الوقت ذاته.
    تحيتي لك أخت زاهية وبورك قلمك

    أ. نصيرة تختوخ

    نور الأدب

  8. الأستاذة الفاضلة زاهية بنت البحر..
    تحية و تقدير

    تحاصرنا أنسانيتك المرهفة من بين كل حرفٍ و سطر.. فنلمس في الصميم قضية أسرية جوهرية، ضحيتها تلك الزهرة البريئة التي كان بأمكان والديها تفادي أمر الطلاق لو فكروا قليلاً بها.
    كل الألق لك سيدتي
    ****
    على الهامش:
    يا لتوارد الأفكار..
    فأنا بصدد نشر نص قصة قصيرة جداً بعنوان “هواجس مشروعة” يحمل نفس المغزى.
    طبعاً.. الأن سيكون الأهداء “لسحاب” و لكي أختي العزيزة.

    أ. عبد الله الخطيب

  9. أسجل حضوري
    يسعدني أن أكون أول الحاضرين
    وأنتظر الحلقة القادمة بفارغ الصبر

    أسلوب شيق جميل سلس يشد القارئ إلى نهايته
    مؤلم هذا السرد على لسان طفلة بريئة لا ذنب لها
    في طلاق الوالدين
    ومع ذلك فهي أكثر المعذبين في الأمر كله
    ليت جميع زوجات الآباء يتعلمون ماذا يجنون
    وبماذا يتجنون على هؤلاء الأبرياء

    شبهتني كثيرًا بقصة قصيرة سابقة ترجمتها لكِ
    “أنين الروح”

    بارك الله فيك أختاه

    أ. منى هلال
    أستراليا

  10. Pingback: غير معروف تحرير
  11. سحاب نثرت هتان المزون
    من مذكراتها
    ترقرقت حروفها ب[اشجاني
    وزاهية البحر
    ملكة الحرف
    بامواج الحروف نثرت ارق
    النصوص بوجداني
    سأستمر اقرأك
    يازاهية الحرف
    بكل اوقاتي
    سلمتي

  12. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    ما إن أنهيتها حتى أكملت قراءة باقي الأجزاء تباعاً، و أنتظر التكملة..

    حروفك مؤثرة أستاذة زاهية زادك الله من فضله
    لي سؤال صغير طرأ على بالي..
    لقد قرأت هذه المذكرات في منتدى حدائق الخير و كانت من كتابة العضوة” زاهيـة” مع نفس رابط المدونـة، فهل هي أنتِ ؟
    لا لشيء، لكن هناك الكثير ممن ينتحل شخصيات الآخرين و يسرق جهودهم، فأحببت التأكد إن كانت أنتِ أم لا، و ذلك لحفظ الحقوق
    وفقتِ

  13. أختي المكرمة حنين
    أهلا ومرحبا بك في مدونتي
    وفي حدائق الخير. أسعدني جدا
    حضورك أخية. أما زاهية التي تكتب
    عندكم فهي زاهية بنت البحر هنا أيضا. أشكرك
    جدا على اهتمامك فقد كثرت
    السرقات وعانيت منها الكثير
    وما زلت والله. جزاك
    الباري عني خير الجزاء
    أختك
    زاهية بنت البحر

  14. السـلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    جميل أنها أنتِ و الشرف لنا بوجودك في الحدائق..
    فهذا واجبي كمسلمـة قبل أن أكون مشرفة في الحدائق أن أحافظ على الحقوق الفكرية و الأدبية و ألا أسمح بالسـرقـة ^^
    جزانا الله و إياكم..
    اسمي ..حيــاْة.. في الحدائق و سعيدة بكِ هناك
    ^^

  15. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    اهلا بك أختي المكرمة حنين
    أسعدني ماتفضلت به فليسعدك ربي في الدارين
    أختك
    زاهية بنت البحر

  16. الشامخة أختي المكرمة
    والله إنه لمن دواعي سروري إشراقك في مدونتي ، لا حرمني الله هذا الضياء.
    لك شكري وتقديري
    أختك
    زاهية بنت البحر

الإعتراف(رواية لزاهية بنت البحر)

1

 

 

الأعتراف(رواية لزاهية بنت البحر)

سأعترف بجريمتي، فهل تسمعون ؟

سأقصُّ عليكم حكايتي مع ذلك الوغد الَذَي كان سبب ارتكابي الجريمة..

كانت حياتي هادئة مع زوجي، أحببته بكل نبضةِ قلبٍ حباً لا تستطيع الكلمات وصفه مهما علت قامة وتجمَّلت ألفاظا… الحبُّ في اعتقادي شعورٌ آدميٌّ بحتٌ، تعجز الحروفُ عن حملِ معانيه، وتفسير ماهيَّته مهما كان المتكلِّمُ بليغاً، فالكلمةُ باقية ، صامدةٌ، أمَّا الإحساسُ، فهو مرهفٌ رقيق ، شفَّافٌ، سهلُ الاختراق، وهو ينتهي بموت ِصاحبه، ويبقى (إن وُجِدَ من يذكره عن صاحبه) أشبهَ بالخيال(ذكرى)، لذلك ترانا نتشبَّثُ بهِ، ليغذِّي فينا القدرة على البقاءِ متعانقين حتَّى الموت.

عشت معهَ أجملَ أيَّام عمري، رغم أنني لم أرزقْ منه بطفلٍ يُؤنِس وحد تي، عندما كان يتركني وحيدة ًفي البيت، ويذهبُ إلى عمله في المدينة كلَّ يوم، ويعود في السَّاعة الثَّانية من بعد الظُّهر.

سامي هو ابنُ خالِ أمي، يكبرني بعشرين عاماً. عاش في المهجر سنينَ طويلة، استطاع خلالها أن يجمع ثروة ضخمة، فقد عمل مقاولا في ترميم البيوت، والمحلات التجارية، ولمَّا جرى المال بين يديه، افتتح محطَّة بنزين خصوصية، فأغرقته وأسرتـَه الصَّغيرة بالمال الوفير، ولمَّا قرَّرَ العودة إلى وطنه الأم، رفضتْ زوجته الأمريكية المجيءَ معه، وطلبتْ منه الطَّلاق، بينما بقي ولداه رامز وحسام هناك مع زوجتيهما، اللتين تعودان بأصولهما إلى إحدى العائلات المغربية، وراحا يُشرفان على العمل في المحطَّة بعد سفر والدهما..

عاد سامي وحيدا من الغربة، يحمل ستين عاما، ورصيداً هائلاً من الدولارات، ليبدأ حياة جديدة في وطنه الأم..

خلال فترة وجيزة من الزَّمن، أنشأ سامي مكتبا كبيراً للبناء، استخدم فيه عدداً من خيرة المهندسين في البلد لم يبخلْ عليهم بالعطاء، وإغراقهم بالمكافآت، فعُرِفَ مكتبُه واشْتُهِرَ بسرعة مذهلة..

بعد خمسة أشهر من عودته، تمَّ زواجي منه بوساطة ِخالتي بهيجة التي كانت تحبُّني، وتودُّ أن تخرجَني من حظيرة العنوسةِ على حدِّ زعمها، فقد تجاوَزتُ الأربعينَ عاما بانتظار النَّصيب الذي تأخَّر مجيئُه لأمر أراده الله، و كنت قد أنهيت دراستي الجامعية، وعملت معلِّمة للـُّغة العربية في إحدى مدارس البنات الإعدادية وبعد الزَّواج تركت الوظيفة نزولاً عند رغبة سامي..

سَعِدْتُ مع هذا الرَّجل في رحلة الزَّواج سعادة سبَّبت لي الألم بعد رحيلها عنِّي، فقد أغدق سامي عليَّ عطفه وحنانه وماله بسخاء، فبادلته تلك المحبَّة بأشد منها حبا، ووفاء..

كانت حياتي معه أشبه بحلم جميل، ولكم تمنيت ألا أصحو منه أبدًا، لا أدري من أينَ أبدأ بالحديث عن تلك السَّعادة التي شملت أيَّامي من كلِّ الجهات المادية منها، والمعنوية، فقد بنى لي بيتا فخماً في الضَّاحية، كان بشهادة من رآه أشبهَ بقصرٍ من تلك القصور التي نشاهدها في الأفلام السينمائية، غير أنَّ الحديقة التي كانت تحيط به راهن الكثيرون على أنها أجمل ما في البيت.. استطاع سامي بخبرته المعمارية الغنية أن يجعل من المنزل قصراً في بستان زيتون، يتوسَّطه مسبح ٌواسع، جعل تصميمَه على شكلِّ أوَّلِ حرفٍ من اسمي (س) وكان عندما يناديني بسناء كان صوته يرتجف من عظيمِ محبَّتِه لي..

ذات مرة دعاني لمرافقته إلى جانب المسبح من الجهة الغربية، ولم نكن في تلك الفترة من الزَّمنِ قد استقدمنا (عزَّام)وزوجته للسَّكن معنا في المنزل، والإشراف على شؤونه.

كان الجوُّ مشرقاً بثت فيه الشَّمسُ دفأها على كلِّ ما حولنا، وتخبأ برد شباط في ركن جانبي بعيدا عن حبنا، فغدونا كعاشقين صغيرين يعبثان بشيب الزَّمن، فيأتلق شبابا وغراما..

2

أمسك بيدي وراح يقترب بي من المسبح، وهو يسمعني من الكلام ما يبكيني سعادة وسرورًا، فيمسح بيده عن خديَّ الدموع برقة وحنان.. لم أشعر بالزَّمن وأنا استمع إليه بكل جوارحي المستسلمة لجمال بوحه، وعذوبة صوته، وروعة تفكيره، حتى لامست أقدامنا حافة المسبح، فقد كانت جميع حوافه بمستوى سطح الأرض عدى المكان الذي ثـُبِّتَ فيه السُّلمُ الحديدي الذي يصل إلى أرضه، بعمق أربعة أمتار متساوية من كلِّ الجهات، بخلاف المسابح الأخرى، بحيث يكون العمق فيها تدريجيا، وكان السُّلَّمُ يتحرك صعوداً وهبوطاً بواسطة الكهرباء من رأس العمود الضخم الذي كان المرتفع الوحيد قرب المسبح بثلاثة أمتار رغم أن طول المسبح كان قد تجاوز العشرين متراً وعرضه خمسة أمتار بما يتناسب وحرف السين، وكأنه أراد أن يجعل منه بحيرة تعكس زرقة السماء رمزًا لصفاء الحب الذي يجمعنا، ولكنني لم أكن أعرف السِّرَّ وراء جعل السُّلَّمِ متحرِّكاً بالكهرباء.. سألت نفسي وأنا أستمع إلى حديثه: كيف استطاع المهندسون عزل الأسلاك الكهربائية بحيث لا تسبب ضرراً إذا ابتلت بالماء؟ أحببتُ معرفة ذلك منه، ولا أدري ما أنسانيه.. شعرت بخوفٍ خفيٍّ يتسرَّب إلى داخلي، وأنا أشاهد هذه الحفرة الواسعة، وقد تخيَّلتُها فارغة من الماء، فوضعتُ يديَّ على عينيَّ هروبا من المشهد المخيف، وشعرت بدوخة، فأمسك بيدي، وسألني: أهناك ما يزعجك؟

أجبته: تخيَّلت المسبح فارغاً..

فقال باسماً: سترينه كذلك بعد أن ينظِّفه العمال خلال الأيام القليلة القادمة.. سألتقط لك بداخله بعض الصُّور لتبقى ذكرى..

فقلت له : لا أريد هذه الذِّكرى.

فسألني بشيء من الحزن: وإن كانت معي؟

أحسست بإساءتي إليه دون قصدٍ مني،فقلت في محاولة لامتصاص ما سبَّبتُه له من أحاسيس مؤلمة: كنت أمازحك، الصُّورة في جوف المسبح وهو فارغ من الماء ستكون مدهشة ومثيرة.. بعد عدَّة أيَّام دعاني لزيارة المسبح بعد أن تمَّ إفراغه لإدخال بعض التَّعديلات الهندسية عليه، وما كنت لأهتم بالحديث عنها معه، وعندما وصلنا إلى حافته عاودتني حالة الرَّهبة وأنا أشاهده فارغا.. لم يتركني سامي طويلاً في بوتقة اضطرابي هذا فقال لي:

سأطلعك على سرٍ لا يعرفه أحد غيري، ولكن بعد أن ننزل إلى أرض المسبح.. راقبي جيدًا ما سأقوم به.. راحت يده تضغط فوق القاطعة الكهربائية، فتحرك السُّلَّم ونزل بنا، وأنا أحسُّ بقلقٍ مفاجئ من جَرَّاء ِهذا الطَّلبِ الغريب من قِبَلِه.. ترى ما نوع السِّرُّ الذي سيطلعني عليه في حفرة، أولم تكن غرفتنا أكثر مناسبة للبوح به؟!!! سبقني بالنُّزول، فتبعته، وأنا أرتجف كعصفورٍ صغير خوفا مما أنا فيه، ومن سره المجهول، تمنيت لدقائق ألا أكون قد خرجت من حظيرة العنوسة، مقابل تعرُّضي لمثل هذا الموقف المثير حقاً.. شعرت بالاختناق وأنا في جوف المسبح، ظننته قبراً ضيقًا رغم اتساعه.. حاولت الصُّعود منه، ولكنَّ يد سامي القوية كانت أسرع من خطواتي، فأمسك بي، وراح يُحدِّق في عينيَّ المذعورتين بنظرات غريبة، للحظات شعرت خلالها بدنو الأجَل، وعجزت في قبضة خوفي الطاحن عن التَّكهن بما يدور في رأس هذا الرَّجل في تلك اللحظة المحرجة بل المخيفة، وأنا وحيدة معه، ربما شعر بسقوطي في هوة الرُّعب السحيقة التي ألقاني بها، فانفجَر ضاحكا، ويداه تضمني إليه بحنان ومحبة، فأحسست بشي من الرَّاحة ممزوجة بالقلق، وأنا ألقي برأسي فوق صدره ألتمس فيه الدفء والأمان، فقال بصوت يتدفَّقُ حنانًا: أكنت حقاً خائفة؟

أجبته ودمعة تنساب من عيني: نعم، ظننت..

لم يدعني أكمل، فقال هامسا وعيناه تزرعان في عيني الطمأنينة فيتشرَّبها قلبي رحمة وسلاما: من يرمِكِ بوردة أرمِهِ برصاصة… أحاطني بذراعه، وسار بي باتجاه الزَّاوية الغربية من المسبح.. أخرج من جيبه مفتاحاً صغيراَ جداً راح يلمع تحت أشعة الشمس.. جلس القرفصاء، ودعاني للاقتراب منه، فرأيته يدخل المفتاح في قفل صغير في الحائط ، ويدير به يده، وخلال لحظات قليلة رأيت العجب.. فتح باب في الحائط كان مموَّهاً من الخارج لا يستطيع أحد مهما كان ذكياً أن يكتشف وجوده، لأنَّه مبلط بالسيراميك كبقية أرجاء المسبح، مصنوع من الحديد بسماكة عدَّة سنتمترات، وقد سيِّجت جميع حوافه الدَّاخلية بعاذل مطاطي، يمنع تسرُّب الماء إلى داخل الغرفة، عندما يكون المسبح مملوءاً به.. لم أتبين ما وراء الباب لانعدام النُّور فيه، فقال بابتسامته الجميلة: انتظري سأريك شيئا.. اخرج مفتاحاً آخر من جيبه، ووضعه في مكان ما من الحائط الدَّاخلي للغرفة، فرأيت الحائط ينشق عن باب سرعان ما شاهدت ما وراءه عندما دخل منه إلى غرفة واسعة لا أدري كيف أضاء فيها النُّور، إلا بعد أن رأيت عدة قواطع كهربائية بطرف الحائط الخارجي للغرفة الأولى، و عندما فتح الباب فاحت من خلاله رائحة الرُّطوبة، فكدت أختنق، وهو يمسك بي، ويدخلني إليها..

 

3

شعرت بنبضه متسرعًا عندما ضمت يده يدي كأنه أراد أن يبث الأمن في صدري الذي بات متأرجح الهدوء، لاهث الأنفاس رغم الجهد الذي أبذله في طمس معالم خوفي في وجهي ونبرات صوتي.. كانت الغرفة فارغة كلها عدا الجدار الشمالي، تجثم باطمئنان عند كعبه خزنة حديدية كبيرة نبتت فوق جلدها الأسود المتشقق بالرطوبة عروقٌ من الملح رمادية اللون، اقترب منها وراح يفتحها بطريقة خاصة لا أفهم عنها شيئاً.. نظر إلي قائلاً: اقتربي وانظري..

انحنيتُ قليلا وأنا أنظر إليها.. كانت مليئة بالنقود، وببعض العلب المخملية الملوَّنة بأحجام مختلفة، فأخرج علبة خضراء، وقدَّمها لي:

– هذه لك يا سناء..

– : ما بداخلها ؟

– : عقد ماسي، ثمنه ستُّون ألف دولار..

قلت بدهشة: ستون ألف دولار ؟!!

-: أجل ولك منها المزيد.

-: ولكن أولادك ما..

– : تركت لهم ما يكفيهم، وأولادهم لسنين طويلة، هذه الخزنة ومحتوياتها ستكون لك بعد وفاتي..

– يا لقسوتك.. غرستَ سكينًا في صدري..

تركته، وركضت باكية باتجاه السُّلَّم، فناداني ضاحكاً: لا تبكي يا حبيبتي أما ترينني ما زلت شابًا قويًا؟

وراح يضحك بجمال لم أره فيه من قبل.

وعندما عدنا إلى غرفتنا سألته لماذا يضع نقوده في المسبح حيث الرُّطوبة والماء، فأخبرني بأنه لا يحبُّ التَّعامل مع البنوك، وهذا المكان لا يمكن لايِّ لصٍ أن يطاله و بابتسامته المعهودة قال: – لا أحد يعرف هذا المكان غيرك.. بناه عمالٌ من خارج المدينة..

منذ ذلك اليوم أصبح للمسبح مكانة خاصة في نفسي لم أستطع تحديد هويَّتها رغم مرور ثلاث سنوات على تلك الحادثة..

تعوَّد سامي أن يتركني في البيت وحيدة مع خادمتي ربا، ولكن بعد زواج ربا استقدم من إحدى القرى المجاورة رجلا، وزوجته ليعيشا معنا في المنزل بحيث يقوم عزَّام بخدمة سامي، وتقوم زوجته بتدبير شؤون البيت، وكان سامي قد خصص جناحا خارج المنزل للخدم، فاستقر فيه عزَّامٌ وهنية ، وابنهما الرَّضيع رشاد..

كانت أمي تزورني، ولكنَّها لم تكن تفضِّل المبيت عندي بحجَّة أن أبي لا يحب أن تنام زوجته خارج البيت، وكذلك إخوتي وأخواتي كانوا يأتون لزيارتنا نهارا، ويرجعون إلى بيوتهم مساءًا، وكثيراً ما كنت أطلب من خالتي بهيجة أن تعيش معي، فهي أرملة وتسكن مع ابنتها في بيت صهرها، ولكنَّها لم توافقني يوما..

أحيانا كنت أحس بالوحدة، فأقتلها بالقراءة، وخاصَّة قراءة القصص البوليسية، لذلك كنت سريعة الخوف، ولكنني تعلمت منها سرعة التَّفكير، وكيفية التَّخلُّص من المواقف الصَّعبة..

بعد دخول عزَّام وزوجته البيت، أصبح الوضع العام أفضل بشكلِ ملموس، فقد حظي عزَّام بثقة سامي الكبيرة ومحبته، وعامله كابن له، وأشركه في الكثير من أسراره العملية والمالية، حتى أنه كان يدخل عليه مكتبه دون استئذان.. لم أخفِ عن سامي شعوري بالضِّيق من عزَّام، ولكنه كان يحاول دائماً امتصاص غضبي، بالثناء عل حسن أخلاق الرَّجل ومروءته، فسكَتُّ مرغمةً مع التزام الحيطة منه، والحذر..

هنيَّة امرأة قروية في الثَّلاثين من العمر، تمتاز بقوة الجسد والنَّشاط، وتمتلك شيئاً من الجمال الملوَّح بالشَّمس، كانت تحب زوجها (عزَّام) وتغار عليه كثيرًا، فقد تزوَّجته بعد قصَّة حبِّ أخبرتني بتفاصيلها ذات يوم بعدما ذهب عزَّام برفقة سامي إلى المدينة لأمر هام حدَّثني عنه زوجي بعد أن عادا بحقيبة سوداء مليئة بالنُّقود لم يخبرني من أين جاء بها. في بعض الأحيان كنت أحسُّ بغيرة هنيَّة مني على زوجها رغم أنني لم أكن أترك له مجالاً ليراني إلا وأنا محتشمة.

لا أدري كيف استطاع هذا الرَّجل أن يدخل بسرعة قلب زوجي، فيطمئن إليه، ويصبح كاتم أسراره الخاص، وربما كان يعرف عنه مالا أعرفه أنا. بدأت أحسُّ بالضِّيق منه، ومن تلك البساطة التي يتعامل بها سامي معه خاصة وإنني كنت أحيانا أرى (عزَّام) ينظر إليه بشيء من الغيرة، فلم أحبذ دخوله عليه غرفته متى شاء، وقد أخبرت سامي بقلقي هذا، فسخر من شكوكي، وقال إنَّ (عزَّام) رجل بسيط، وهو أفضل مما أظنُّ..

لم يوفر (عزَّام) فرصة ما دون أن يظهر محبته لسامي منفردًا به أو أمام الجميع، ولكنَّني كنت في ريب منه، فرحت أراقبه عن كثب دون أن أترك له ثغرة يضبطني بها، وأنا أرصده إلا مرة، أو مرتين.

 

 

4

ذات ليلة كنت في جناحي الخاص، الذي لا يدخله أحد سوى سامي، وكنت أنا التي أقوم بتنظيفه والعناية به، ولم أسمح لهنيَّة يوماً بدخوله مطلقاً..

جلست على الأريكة قرب النَّافذة أنظر بين الفينة والأخرى من خلف الزُّجاج، إلى تساقط الثُّلوج الرَّائع فوق أشجار الزَّيتون، كان المشهد يوحي بالكآبة رغم روعته ربما لأنني كنت في غرفتي وحيدة، أو ربما لسبب آخر لم يكن إحساسي به واضحاً في هذه السَّاعة، شغلت نفسي بالقراءة في إحدى القصص، وأنا أحتسي الشَّاي السَّاخن، بينما كان سامي يراجع حساباتِ بعض الدَّفاتر المهمة في مكتبه الذي يبعد عن غرفتي كثيرًا، وكان عليه أن ينهيها الليلة ..

سمعت دقاتِ السَّاعة في الخارج تعلن تمام َالعاشرة مساءً، فنهضت من مجلسي وأغلقتُ الكتاب، وخرجتُ من الغرفة لأحضر لسامي كأساً من العصير، وفي طريق عودتي من المطبخ باتجاه غرفة سامي سمعتـُه يصرخ بصوت مجهد: لا تقتلني يا عزَّام، أرجوك، خذ ما تشاء من النُّقود، لن أبلغ عنك البوليس..

فسمعت (عزَّام) يجيبه بصوت غاضب: سأقتلك وآخذ أموالك وزوجتك، كفاك عمراً أيُّها العجوز مت.. مت..

ياإلهي ماذا أفعل؟ إنَّني وحيدة في البيت، وسامي بين يدي مجرم، لم أعد أسمع صوتا، لقد قتله، رحتُ أرتجف مذعورة، حاولت اقتحامَ الغرفة، ولكنَّ الخوفَ كبَّلني، ربما لو علم بوجودي جاء ليقتلني، فأنا الشَّاهد الوحيد على الجريمة..

هربت إلى غرفتي.. أغلقتُ البابَ جيدا، واقتربتُ من الهاتف، رفعتُ السَّمَّاعة بعد أن وضعتُ كأس العصير فوق الطاولة الصَّغيرة قرب الهاتف، ولكنَّني لم أتذكر أي رقم هاتفي، فأعدتُ السَّماعة إلى الجهاز خشية أن يكون (عزَّام) على الطَّرف الأخر من الخط في غرفة سامي..

 

وضعت يديَّ فوق فمي أستجدي الدَّفءَ من أنفاسي، والدُّموع قد جمَّدها الخوفُ في عيوني..

ما أصعبَ الوحدة، أحسستُ بالغربة، بل بالنَّفي خارجَ المجتمع برفقة مجرم خطير، قد تطبق يداه حول عنقي في أية لحظة..

يا الله ماذا أفعل؟ بمن أستنجد؟ من سيحضر إلي في مثل هذه السَّاعة من الليل، لم أعد أتذكر كم أصبحتْ هذه السَّاعة ُ الآن، ومن سيأتي إليَّ يحتاج بأقل تقديرٍ إلى نصف ساعة للوصول إلى بيتنا، دون وقت الاستعداد للخروج من البيت .

يجب أن أفعل شيئا قبل أن يقتلني أنا الأخرى، وبينما أنا في زوبعة الخوف سمعت نقرات على باب غرفتي، فارتعدتْ فرائصي رعباً وبرداً، وما لبثت هنيهة حتَّى سمعتُ صوت عزَّام يقول: سيدتي..

لم أرد عليه.. ظننته يحمل سكينًا، عاود النداء مع النقرات بصوتٍ أعلى من ذي قبل

– سيدتي سناء إنني ذاهب إلى المدينة بتكليف من السَّيِّد سامي أتحتاجين شيئاً من هناك؟

استجمعت قوتي، وما بقي لديَّ من أنفاس.. أجبته: لا، أشكرك..

لم أعد أسمع صوته، أسرعت إلى جانب الباب أتنصَّت من خلفه، فسمعتُ صوت خطواته تبتعد عن غرفتي، نظرت من خلال ثقب القفل، رأيته يهبط الدَّرج باتجاه الطَّابق الأرضي، تنفَّستُ الصّعداء، ومشيتُ باتجاه سريري، ألقيتُ بنفسي فوقه باكية، وقد خارت قواي، فأنا الأن سجينة ً مع رجل ميت في بيت واحد، وأنا أخاف من الموت، ولم يسبق لي أن رأيت ميتا في حياتي ..

وسط دوامة الخوف هذه، سمعتُ صوت محرِّك السَّيارة، فنهضتُ لأرى ما الَّذي يحدث في الخارج.. نظرتُ خلسة من خلف السِّتار، فوجدتُ (هنيَّة) تقف بالقرب من سيارتنا التي كان يقودها عزَّام دائما بتفويض من سامي سابقا، هاهو الآن يستَّقلُّها دون إذن منه ليهرب من جريمته، ويتركني فريسة للشُّكوك البوليسية بعد اكتشاف الجريمة، يا إلهي ماذا أفعل وأنا في هذه المصيبة السوداء؟!!

(5)

تشبثت الهواجسُ في رأسي فلم تترك ذرة في تفكيري دون أن تشبعها قلقًا.. لم أعد قادرة على التَّماسك، أوشكت أعصابي أن تنهار في أي لحظة فأتقزَّم.. يخونني الصبر فأقع فريسة جبني وسوء تدبيري.. فجأة خطرت ببالي هنيَّة، أجل هنية ليس سواها الآن من يشاركني وحدتي.. سأستدعيها لتساعدني في إخراجي من دائرة الخوف تلك.. تظل المرأة أكثر رحمة من الرجل في ثورة إجرامه وتوحش بطشه..

وعندما تأكدتُ من خروج عزَّام من المزرعة هممتُ باستدعاء هنيَّة بحجة حاجتي إليها لصداع في رأسي، ولكنني أحسستُ فجأة بتماسك داخلي ينتابني، وعودة الوعي لي بعد ابتعاد عزَّام عن البيت ..

جلست على السَّرير بشيء من رباطة الجأش، ورحت أفكر بهدوء فيما يجب أن أفعله في تلك الورطة والمصيبة التي رماني بها الوغد عزَّام..

بدأت بدراسة كلِّ الاحتمالات التي قد أتعرَّض لها عندما يصبح الأمر بيد الشرطة، كان مصيرُ عزَّام يهمني، فقد يخرج من القضية بريئاً، وقد أتَّهم أنا بقتله وقد وقد وقد..

أخيرا قررتُ عدمَ إخبار الشِّرطة، وعدم اتهام عزَّام بقتل سامي، وسأخبر الجميع بأنَّني وجدته ميتا في غرفته ولن يكذِبني أحد، فالكل يعلم كم أحبه..

لم أخرج من غرفتي.. رحتُ أزرعها ذهاباً وإيابا إلى أن سمعت دقات السَّاعة في الصَّالة تعلن الثَّانية عشرة ليلا.. بقيتُ هادئة بعض الشيء أنتظر قدوم هنيَّة، فقد تعوَّدتْ في مثل هذا الوقت من كلِّ ليلة، عندما يكون سامي في مكتبه، وقبل أن تنام أن تأتي إليه، وتسأله إن كان بحاجة لشيء ما تقدمه له قبل ذهابها للنوم..

انتظرتها خلفَ باب غرفتي، ورحتُ أنظر من ثقب القفل، فرأيتــُها تصعد الدَّرج، وتمشي باتجاه غرفة سامي… أطفأت النور في جناحي، وعدت أراقبها من خلال ثـُقب القفل..

نقرَتْ على الباب عدة نقرات، وانتظرتْ بعض الوقت، ثُمَّ عادتْ تنقر مرة ثانية، وثالثة، ثُمَّ ما لبثتْ أن فتحتْ الباب ودخلتْ الغرفة، فقد كانتْ تفعل ذلك عندما لا تسمع ردَ سامي عليها، فتعرف أنه خرج من الغرفة، فتدخلها لترتبها قبل أن يعودَ إليها..

لحظات قليلة وسمعتُ صراخها مدويًا في أرجاء البيت كمن هاجمه ليث.. أدرتُ المفتاح في القفل كي تستطيع دخول الغرفة عندما تأتي لإخباري بما رأتْ.. أسرعتُ إلى سريري، واندسستُ فيه، متصنِّعة النوم ..سمعتها تفتح الباب بعنف وهي تصرخ خائفة :سيِّدة سناء ..سيِّدة سناء ..

 

لم أجبها، عادتْ تناديني، ويدها تلمس الغطاء فوق كتفي:

– سيدة سناء… أرجوك أصحي سيِّدتي..

تململت في سريري وأنا افتح عينيَّ بتثاقل مفتعل، وعندما التقت عيناي بعينيها جلستُ في السَّرير ونهرتها بذهولٍ وغضب:

– كيف دخلت غرفتي، ومن أذن لك بهذا؟

فأجابتني مرتجفة: السَّيِّد سامي.. السَّيِّد سامي..إنَّه ..

– أهو الذي أرسلك إليَّ؟

فقالت: إنَّه.. إنَّه

أمست بكتفيها أهزُّها بعنف وأنا أقول: ما بهِ.. ما بهِ تكلَّمي؟

أجابتني:إنه.. إنَّهُ لا يتحرَّكُ..

غادرتُ سريري، وأنا أدفع بها عنِّي مسرعة باتجاه غرفة زوجي لأرتمي فوق صدره، وأفرغ دموع عيني فوق وجهه الحبيب، فقد كنت أعلم أنه فارق الحياة قبل ساعتين، وما حجبني عنه خلالهما إلا غاية في نفسي، وعندما دخلتُ غرفته، وجدته ميتا وهو جالسٌ خلف مكتبه، ورأسه على كتف الأيمن، ولا أثر لوقوع جريمة.. ضممته إلى صدري أشبع قلبي منه، وأبثه حزن عمري الذي سيكون بعده رفيقي مدى الحياة..

تمَّ دفنُ سامي بهدوء وسط أحزان العائلة، ولم نستدع طبيبا شرعيا لإعطائنا تقريراً طبيا يثبت أن الوفاة كانت طبيعية من أجل التَّصريح بالدَّفن، فقد طلبت من أخي عامر أن يحضر التقرير الطُّبي من قبل ابن عمِّي أنيس، فهو طبيب صحة، ولن يرفض التصريح بذلك، فسجَّلَ في التَّقرير أنَّ الوفاة كانت بسبب أزمة قلبية مباغتة، فشعرت بارتياح يعلو وجه عزَّام رغم الحزن المصطنع الذي كان يبديه لنا عندما كنا نطلب منه بعض مستلزمات العزاء..

اضطرت والدتي وأختي سماح للبقاء عندي في البيت بعد أن رفضتُ الذهاب إلى منزل والدي بحَجَّةِ أنني سأتمُّ أشهر العدة في بيت زوجي، وكان أخي سعيد يأتي إلينا كلَّ يوم للاطمئنان علينا، وكذلك أبي الذي كنت أجبره بدموعي على المبيت معنا في بعض الأيَّام، وأثناء هذه المدَّة بقيت هنيَّة وعزَّام يقومان بخدمتنا بجدِّ، ونشاط..

 

6

لم يعد للحياة طعم بعد أن أصبحت أرملة.. مكلومة بفقد زوج عوَّضني ما فاتني من سعادة عمرٍ منصرم، لم يكن سامي زوجاً عادياً.. كان رجلاً استثنائيا قلَّما جاد الزَّمانُ بمِثلِه.. سامي فقيدي الغالي، سأظلُّ أبكي عليه العمر كلَّه.. ستبقى كلماته ترنُّ في مسمعي ليلاًّ ونهاراً… سأظلُّ أرى ابتسامته بنور الشَّمس وضياء القمر، وأسمع عذب كلامه يمسح عن نفسي شقاء الحياة.. ستبقى عيناه الغائبتان تضيئان لي الطريق في وحشة الوحدة وزحام الخوف.. سيزورني طيفه مع كل إشراق، يؤنسني مع كل غروب.. ستظل شفتاه تناديني سناء.. كم أنا بحاجة لذاك النداء..

كنت أبكي بصمت، لم أخبر أحداً بمقتل سامي بل دفنت السِّرَ في صدري، وكثيراً ما كانت عبارة عزَّام ( سأقتلك وآخذ أموالك وزوجتك، كفاك عمراً، أنت عجوز مت، مت ) يتردَّد صداها الحارق في سمعي بين الحين والآخر.. عندما علم وَلَدَا سامي بوفاته اتَّصلا بي هاتفياً وقدَّما لي أحرَّ التَّعازي بوالدهما واعتذرا عن عدم قدومهما للمشاركة بالعزاء بحُجَّة ضغوط العمل، والأوضاع العامة في المهجر، وأخبراني بأنّ َوالدَهما قد خصَّني في وصيته بكلِّ أموالِه في وطنه الأم، وسألاني إن كنت أريد منهما أيَّة خدمة فيتمُّ لي ذلك بكلِّ سرور… شكرتهما وتمنَّيت لهما حياة سعيدة، وأخبرتهما أنَّ والدهما مات وهو راضٍ عنهما، فشكراني على تلك السَّعادة التي قدَّمتها له، ومنذ ذلك اليوم لم يتَّصِلا بي ثانيةً..

في حديث مع والدتي ذات مساء، ونحن نتناول عشاءنا بعد أن ذهب والدي للنَّوم كعادته عندما كان يحين موعد الطَّعام، فقد تعوَّد منذ سنين المبيت دون عشاء عملاً بتعليمات الطَّبيب، بعد تعرُّضِه لأزمة قلبية كادت تودي بحياته، فالتزم الحمية. قالت لي: إنَّ وجود رجل أجنبيِّ في المنزل مدعاة للشُّبهة خاصَّة بعد موت سامي، وإنَّه من الأفضل الاستعاضة عنه بامرأة ردعاً لما قد ينجم من تلقاء تواجده الدّاَئم في البيت من مشاكل داخلية، وأيضا لكفِّ ألسنة النَّاس عن الكلام بشيء قد يسيء لسمعتي، عدا عن حرمة وجوده من النَّاحية الدينية، فأفهمتها بأن زوجته هي فقط من يدخل البيت، وهو يقوم بالإشراف على الحديقة وشؤون التَّموين، والحراسة أيضًا، فسَكَتـَتْ على مضض، ولكنَّها ظلَّتْ مصِّرة على عودتي للعيش في بيت والدي بعد انتهاء شهور العدة، وكان قد تبقى لي منها عشرة أيَّام..

خلال تلك الشُّهور الصَّعبة على المرأة، كنت أدخل إلى مكتب سامي، أشم فيها رائحة عطره المُمَيَّزِ التي مازالت عالقة في الأماكن التي كانت يده تلمسها، فقد تعوَّد أن يرطِّب يديه بالعطر بين وقت وآخر، وهو يعمل في المكتب، فبقيت نسائم الطِّيب هفهافة في أجواء المكان تؤنسني، ولكن بكثير من الحرقة والحرمان..

قبل انتهاء العدة، كنت قد راجعت حسابات سامي مع المهندسين والعمال، وكان أخي سعيد يقوم بالاتصال بهم لمعرفة أخبار العمل، ولم تعد لعزَّام تلك الأهمية التي اكتسبها وتمتع بها في حياة سامي، فبدأت زوجته تشكو من تغيُّر ملحوظ في تعامله معها، فقد أصبح عصبياَّ، سريع الغضب حتَّى أنَّه هددها بالطَّلاق لسبب تافه، فكنت أدعوها للصَّبر، وأغدق عليها العطايا كي امتصَّ غضبها، فأنا مازلت بحاجة لوجودهما قربي..

في يوم الجمعة الأخيرة من أيَّام العدة ذهبت هنيَّة وزوجها إلى القرية لرؤية الأهل، فانتهزت فرصة غيابهما عن البيت واستغراق أمي في النَّوم بعد الظُّهر، وكانت أختي سماح في المدينة، فخرجتُ إلى الحديقة أتلمَّسُ خطواتِ سامي التي محتها الأمطار، ونبتت مكانها الأعشاب الرَّبيعية، فضاعتْ معالمها بانقضاء فصل الشِّتاء، وتوالي الليل والنَّهار.

 

7

قادني شغفي بسامي إلى الجهة الغربية من الحديقة، حيث المسبح ينتظر القادم إليه بصبر لاهث الأنفاس، تذكرت ما كان بيني وبين الراحل عندما نزل بي إلى قاعه المفرغ من الماء، فشعرت برغبة بغزوه هذه المرة.. عدت إلى غرفتي، وبحثت عن المفتاحين الصَّغيرين في مجموعة المفاتيح المهملة بعد موت صاحبها، وجدتهما حزينين يندبان صاحبهما… باردي الملمس، تفوح منهما رائحة الفقد، وهما بشوقٍ لحنان يديه الدافئتين.. عدت إلى المسبح ودقَّات قلبي تزداد سرعة وقوة، ورجْع صوته يداعب مسمعي..

كان السُّلم الحديدي مرفوعاً.. اقتربتُ منه بحذر، ضغط بسبابة اليد اليمنى على القاطع الكهربائي، تحرَّك السلُّم باتجاه أرض المسبح، لم أتردد في النزول لحظة واحدة، وكنت سابقا أخاف من مجرد تخيله فارغًا، قوة غريبة تحتل جسدي.. أذهلتني حقيقة، ولا أدري من أين جاءتني، وأنا التي عرفت ببطء الحركة.. نظرت إلى السماء، رأيتها شاهقة العلو فانقبض قلبي للحظة مضيت بعدها لتحقيق الهدف الذي دعاني لاجتياح المكان.. أوشكت أكثر من مرة أن أقعَ فوق الأرض وأنا أسير نحو الباب السِّري في الحائط بسبب اللزوجة التي أصابتها من جراء إهمال المسبح بطريقة محزنة بعد رحيل سامي الذي كان يوليه اهتماما زائدا في كُلِّ الفصول..

وصلت الباب السري الذي يوجد فيه القفل، ولما بدأت بتحريك يدي بالمفتاح، شعرت بقشعريرة تسري في بدني، و خيال سامي يداهمني على حين غرة، وهو يقوم بنفس الحركات التي أقوم بها الآن. للحظات فكرتُ بالهرب والعودة إلى البيت، ولكن اضطراري للقيام بهذه المهمة في غياب عزَّام أجبرني على الصُّمود بوجه الخوف، ولما فتح الباب في الحائط، سرى في نفسي حزنٌ شديد، فانهالت دموعي ساخنة فوق خدَّيَّ تندب زمنًا تولى، وأنا أمشي باتجاه الباب الثَّاني، وهواجسي تزداد افتراساً بأعصابي التي بدأت تنهار، كلما اقتربت أكثر من الخزنة الحديدية المفجوعة بموت سيدها، بينما رائحة الرُّطوبة تفوح في المكان المعتم، فتزيد الجو كآبة..

فتحت الخزنة، ورحت أتفقَّد محتوياتها الثَّمينة جداً التي لا أستطيع تقديرها برقم معين… فجأة سمعت صوت قطَّة تموء في الخارج … أصابتني رجفة كادت تقتلع قلبي من صدري اللاهث بالقلق.. كنت أخشى أن يعود عزام، فيجدني وحيدة بين هذه الكنوز، فيرحمني من عذاب الفقد، ويرسلني إلى سامي بشفقة مصطنعة لغاية في نفسه.. لم أدر كيف أغلقتُ الخزنة دون أن أحضر منها سوى علبة مخملية حمراء لم أكن قد أطَّلعتُ على محتوياتها بعد، وأسرع بالخروج من الغرفة قبل أن أصاب بسكتة قلبية..

ولما رجعتُ إلى البيت، وجدت أمي تبحث عني في الطابق الأرضي، فأخبرتها بأنني كنت أتمشى في الحديقة إثر ضيقٍ ألمَّ بي، مستغلة غياب عزَّام. أسرعت إلى غرفتي لتغيير ملابسي التي علق بها الكثير من التُّراب، وكنت لا أزال ممسكة بالعلبة المخملية، فوضعتها فوق الطَّاولة قرب سريري، ثمَّ دخلتُ الحمام، واغتسلت، وخرجت مسرعة إليها لرؤية ما بداخلها.. فتحتُها بشيء من الرهبة، وكثير من الشجن، فوجئتُ وأنا أتلمَّس ماكان يخبِّئه لي سامي فيها ليقدِّمه لي هدية عيد زواجنا الخامس، الذي مات قبل أن يتمُّه معي.. خسارة.. لم أكن أتوقع أن أجد في داخل العلبة اسمي مكتوبًا بالذهب ومرصَّعًا بالماس بخط كبير، وقد علق بسلسال جميل.. رحمك الله يا سامي كم كنت محباً، لقد قتلك الوغد غدرا، فحرمنا فرحتنا وسعادتنا لأجل حفنة من الدولارات لو أنَّه طلبها منك لأعطيتـَه أكثر منها، ولكن الإنسان يظلُّ جحوداً، خائناً وجباناً..

انتهتْ أيَّام العدة، وصار باستطاعتي أن أتحرك براحة أكثر، فرحتُ أخطِّط لما نويتُ القيام به بعد مقتل سامي الصاعق.. أخبرت الجميع بأنني سأنتقل إلى المدينة للعيش هناك، وسأضطر لإغلاق المنزل ريثما أجد من يشتريه.. صُدمتْ هنيَّة عندما سمعتْ بالقرار، فقد أحبت العمل في بيتي، وحققت من خلاله بعض المكاسب المالية.. أمَّا( عزَّام )فقد أصابه الذُّهول، وبدا مهمومًا مقطب الجبين، وبعد أسبوعين كان كلُّ شيء قد تمَّ على أكمل وجه، وأطفئتْ جميع الأنوار في المنزل والحديقة.

لم يستطع عزَّام أن يسرق من مال زوجي شيئا، فقد كان المال الذي يستخدمه في الحياة اليومية مخبَّأ في خزانة غرفتي بغضِّ النَّظر عن الأموال التي في المسبح..

بعد عشرة أيَّام من عودتي إلى بيت أبي، أخبرتني أمي أن( عزَّام) ينتظرني لأمر هام في غرفة الاستقبال، فذهبتُ إليه، ورحَّبتُ به، وسألته عن هنيَّة ورشاد، فأخبرني بأنه سيطلِّقها، وهي تقيم الآن في منزل أهلها، سألته عن السَّبب، تلكأ بالجواب، ففهمت من نظراته ما تخبِّئه سريرته من حبٍّ لي، ابتسم داخلي ابتسامة انتصار ربما فهم من تجلِّيها على وجهي ما شجَّعه على الاتصال بي هاتفياً بعد ثلاثة أيَّام، وأخبرني بأنَّه يريد مقابلتي لأمر هام، فأجَّلت له تلك المقابلة أسبوعاً ..

بعد أسبوع رنَّ جرس الهاتف في بيتنا، وكنتُ هذه المرَّة بانتظار المتكلم، سمعتُ صوت عزَّام يهمس عبر الهاتف بصوت رقيق مرتجف: لقد مضى الأسبوع فمتى نلتقي؟

 

 

8

عزَّام رجل في الأربعين من العمر، طويل القامة أسمر اللون أسود العينين ربما كانت هنيَّة معذورة يوم علقت بحبِّه، إنَّه رجل تتمنى أية امرأة أن يكون زوجاً لها ما لم تجده فقيرًا مجرمًا وحقودا…

سألته: لماذا تريد أن تراني ؟

أجابني: أنت تعرفين لماذا أريد لقاءك . قرأتُ ذلك في عينيك عندما كنا نعيش معا في البيت الكبير، فلمَ تتجاهلين الآن ما تعرفين؟

ياله من كاذب.. لئيم، لم يحدث أبداً أن نظرت إليه كما يدَّعي، ولكن شيطانه صور له ذلك، كان يجب عليَّ ألا أسمح له بدخول بيتنا مهما كانت الأسباب، ولكن ما نفع النَّدم وقد سبق السَّيف العزل؟

قلت له: حسنا سيكون لك ذلك ولكن بشرط .

-قولي ما تشائين من الشروط وسأوقع عليها بدمي .

-ألَّا يعلم أحد بأننا سنلتقي ريثما نتَّفق على الخطوات التَّالية للقاء ..

كاد قلبه يخرج من سماعة الهاتف خفاقًا بقوله: سأخفي الخبر عن أنفاسي، ونفسي، ومن سواهما، ولكن أين سنلتقي، ومتى؟

أجبته: في البيت الكبير غدا في التَّاسعة صباحاً..

لم تغمض لي عين في تلك الليلة، وأنا أفكر بكلِّ ما مرَّ بي من أحداث منذ أن تزوَّجت سامي حتَّى تلك اللحظة التي أنا فيها الآن.. سألت نفسي: ترى هل آن لقلبي أن يرتاح من أحزانه الجسام؟

خرجت من المنزل في الثّاَمنة والنِّصف صباحا، بعد أن أخبرت أمي بأني ذاهبة إلى السُّوق لشراء حذاء جديد.. استقليت سيَّارة أجرة أوصلتني إلى قرب بيتي في الضَّاحية، فوجدت (عزَّام) ينتظرني بجانب البوَّابة التي تودي إلى حديقة المزرعة، كان الطَّريق خالياً من البشر..

أشرق وجهه بعد طول ظلام عندما رآني أغادر السيارة باتجاه البيت، فتحت البوَّابة الكبيرة، ودخلت منها برفقته إلى الحديقة، نظرت إليه فوجدت صدره يعلو ويهبط وكأنه يرقص فرحاً، وسعادة وحبورا، وأنا أسير بالقرب منه باتجاه المسبح، لم يكن قادرًا على كتم عواطفه فراح يبوح لي بمكنونات قلبه العاشق، وأنا أصغي إليه باهتمام متعجبة مما صنع الحب في هذا الكائن البشري.. كيف جعله مجرمًا في ساعة.. ورقيقًا ضعيفًا بحضرة الحبيبة، وصلنا المكان الذي وقفتُ فيه ذات يوم مع سامي قرب سلُّم المسبح، نظرت في عينيِّ عزَّام وهي المرة الأولى التي اقصَّد بها النَّظر إليه، فقرأت فيهما غير ما كانتا تبوحان به لعينيَّ.. كان محلقًا في عالم الهوى.. تتنازعه عواطف الهيام، فتعلو به فوق السحاب بفرحة كنت أراها في عيون تلامذتي المراهقين والمراهقات، وهم يستقبلون ببراءة خبر نجاحهم بتفوق كبير.. ابتسمت له، فخرجت ابتسامتي بقلبه وعقله وكأنه لم يصدق ما ارتسم على ثغري .. احمرَّ وجهه وأنا أقول له: يا لجمال هذا المسبح.. سيكون أكثر روعة وهو مملوء بالماء (وأنا أشير بيدي إلى الجهة المقابلة لنا في الجانب الآخر ألقيت بخاتمي في المسبح فراح يتدحرج فوق أرضه حتَّى استقر قرب باب الغرفة السِّرية )فقلت لعزَّام: دعني أخرج الخاتم إنه غالي الثَّمن..

فقال لي: لاعليك يا سيِّدتي، ومليكتي سأخرجه بنفسي ..

لم يترك لي فرصة للكلام عندما ضغط بإصبعه فوق القاطع الكهربائي فنزل السُّلمُ إلى داخل المسبح، ولحق به عزام، واتجه نحو الخاتم بينما كان أصبعي يضغط فوق القاطع الكهربائي والسُّلم يرتفع عاليًا، وعندما التفت عزَّام إلي وفي يده الخاتم لم يلفت انتباهه ارتفاع السُّلم، فدفع بالخاتم نحوي، سقط فوق تراب الحديقة، فالتقطه وأنا أضحك بسعادة لم تزرني منذ مقتل سامي قائلة لعزَّام :شكراً لك أيها السَّيِّد الوفي لقد أعدتَ لي حقي.. فضحك بسعادة من لا يدري ما تخبِّئه له الأيام وقال بشاعرية: وسأقدِّم لك منه المزيد في المستقبل، أعدك بسعادة حقيقية يا حبيبتي..

9

فقلتُ له: يكفيني ما قدَّمته لي الآن، لم يعد أمامك متّسع من الوقت لتقديم أي شيء لأحد، لأنَّك ستموتُ عمَّا قريب..

سألني قبل أن ينظر إلى السُّلُّم: بحبك

– بل بخيانتك

– خيانة عن أي شيء تتكلمين؟ أنا أخونك سأطلق هنية يا حبيبتي ..

– ستصبح هنية أرملة ..

فانتفض قائلا بشيء من الخوف:- ماذا تقصدين؟

قلت له: بشــِّرِ القاتلَ بالقتلِ ولو بعدَ حين.. والآن جاء دورك لتلقى مصيرك

فسألني متغابياً: أي قاتل هذا الذي تتكلمين عنه وأي مصير؟!!

أجبته ببرود: أنت القاتل ومصير القاتل القتل.

فقال باسماً: لابد أنَّك تمزحين، وإن كان مزاحا ثقيلاً فإنَّه منك جميل.

قلت له: ومنذ متى كان بيني وبينك مزاحٌ أيُّها الوغد؟

فقال مذهولاً كمن تلقى صفعة بكف قوية: الوغد؟!!

– الوغد قليلة عليك أيها التافه الحقود، الجحود

فقال بغضب: أنا؟!!!

أجبته: ومن غيرك أيها المجرم، قتلت زوجي بمسمع مني، ولم يكن بمقدوري آنذاك أن أفعل شيئا، كنت وحيدة أيها السافل..

فقال: لم أفعل شيئاً أنا بريء، صدقيني أنا بريء..

فقلت: أجل أنت بريء وأنا أصدقك، ولكن براءتك من الإنسانية والرحمة والمروءة، أنت بريء من الوفاء والإخلاص، لقد قتلتني بقتل سامي، وحان الآن وقت الانتقام.

نظر حوله في المسبح واتَّجه نحو مكان السُّلُّم يريد الصُّعود، ربما لقتلي ولكنَّه سرعان ما صرخ هائجاً: أنزلي السُّلُم أريد الخروج من المسبح.

فقلت له:هذا المسبح الواسع هو قبرك أيُّها المجرم، ستموت فيه وحيدًا، جائعًا وخائفًا.. أصرخ بأعلى صوتك ليلاً ونهاراً فلن يسمعك أحد ..

فقال مرتجفا بالخوف والغضب: أخرجيني من هنا أرجوك يا سيِّدتي ..

فقلت له: لم ترحم سامي، وهو يتوسَّل إليك كي تبقيه على قيد الحياة، فهل أرحمك أنا؟!

فقال لي: أنت السَّبب، كنت أحبك وأنت تعلمين ذلك جيداً..

فقلت له: خسئت وكذبت أيُّها الحقير..

فقال: فلمَ إذن كنتِ تنظرين إلي باهتمام عندما كنتِ ترينني من وقت لآخر؟

أجبته : كنت أراقبك خوفاً منك على زوجي، فقد ساورتني الشكوك بنياتك السَّيئة تجاهه..

فقال بغضب: كذبتِ، بل كنت تنظرين إليَّ بإعجاب نظرات أشعلت النار في داخلي، وكادت تحرقني

فقلت: وهل مثلي تنظر إلى مثلك أيها ال

فقال مقاطعاً: وما يدري الرَّجل بنية من تنظر إليه من النِّساء كانت من تكون؟

فقلت له: كان عليك أن تعرف مقامك بيننا فلا تتخطَ حدودك..

فقال غاضباً: الحب لا يفرق بين المقامات، ولا يعترف بالفوارق الطبقية، كلنا بشر..

فقلت له: ولكننا لسنا جميعاً مجرمين.

فقال بعنف: وأنت أيضا مجرمة، لقد ارتكبتُ الجريمة بسببك، يجب أن تفهمي هذا جيداً، نحن شركاء، كان عليك ألا تدعيني أراك مع زوجك العجوز.. هو على حافة قبره وأنت تضجين بالحياة، لقد غرر بي صِغَرُ سنك، ورقة ُ معاملتك لنا، ألا تعتبرين هذا هو قمة الإغراء؟

فقلت له: يالك من معقَّد تافه، لا تستحق الشفقة..

فقال لي:في مثل حالتي القلقة، لابد أن تتحول الشفقة إلى حب، فالظروف حولنا تسمح بذلك.. بل تشجِّع عليه ..

فقلت له: فقط لمن هو دون الرجال أمثالك..

فقال غاضباً: يا سيِّدتي في الصدر قلب من لحم ودم يدق وليس قطعة من حديد، لماذا أدخلتمونا أنتم إلى حياتكم حيث الدفء، وزرعتم في قلوبنا الحسرة، وفي نفوسنا الألم، إنَّ نفسي تفتتْ بينكم وتناثرت بشعور الحب والغيرة، لم أعد أحب الرجوعَ إليها، بل رحت أهرب منها لأدخل في نفوسكم أنتم حيث عالمكم البراق، المغلف بالحرير، المرشرش بأرقى العطور الفرنسية الباهظة الثمن.. المفروش بالسجاد العجمي، والمتخم باللحوم والفاكهة والرفاهية، قتلت نفسي على عتباتكم.. فلا تلوميني..

10

فقلت له كلاماً لا أدري كيف خرج من فمي: الحديث عن النّفس يفتح بابا إن ولجناه رأينا العجب، هناك سراديب وقلاع وبحور ومغارات وجبال،عالم غريب عجيب، فيه أسرار جغرافية حياة الإنسان بكل ما تحتويه من نجاح أو فشل، من فرح وحزن، من تمرّد وانكسار.

فقال بغضب: وما شأني أنا بالجغرافية والجبال والمغر، كلميني بكلام أفهمه؟

فقلت له: من استطاع فهم عالم نفسه هذا أمسك بلجامها وقادها إلى حيث السّعادة، وعندما يحتل حصونها، ويرفع فوق قلاعها راية الوعي والإدراك لكل تطلعاتها يحكمها بقوة، ويسلك من خلال تضاريسها الوعرة إلى بر الأمان، ومن يحكم نفسه يدرأ عنه مغبات الظّروف المحيطة به، فيعطي التفسيرات المقنعة لكل ما يواجهه من صعوبات في درب الحياة، ويتغلب على ألم المواجهة بوعي يُحْسَد عليه ..أمَّا أنت …

فقاطعنا محتدَّا : ماذا تقولين ؟! دعيني من فلسفة تضيع العقل، أسألك لماذا أدخلتمونا إلى حياتكم لا إلى القلاع والتضاريس؟

فقلت له: أنتما طلبتما العمل عندنا، وقبلنا بكما بسبب حالتكما المادية السيِّئة، رغبة منَّا في مساعدتكما لتحسين حياتكما المعيشية..

فقال متحسِّراً: لقد حطمتمونا بنية المساعدة تلك، ليتكم لم تقبلوا بنا عمالاً في عالم الترف الذي تعيشونه..

فقلت له: لكل قاعدة شواذ، وكنتَ الشواذ فيها، لم يكن الكثيرون مثلك ممن نعرف ونسمع عنهم..

فقال مسترحماً: أرجوك يا سيِّداتي أنزلي السلم ، وأعدك بل أقسم لك بالله العظيم أن أكون لك خادماً مخلصاً مدى الحياة..

فقلت له: بل ستموت بلا رحمة ولا شفقة، القاتل لاعهد له ولو أقسم مئات المرات.. مت هنا فأنت لا تستحق الحياة..

فقال برجاء: ارحميني من أجل هنية وابني رشاد؟

فقلت له: لم ترحم سامي من أجل الخالق، فلن أرحمك من أجل مخلوق..

واستدرتُ باتجاه بوابة حديقة البيت وأنا أشعر بالانتصار، والدموع تنساب من عينيَّ فوق خديَّ مالحا، وإحساس بتأنيب الضمير ينتابني، فأتجاهله رغماً عني، بينما كان صوت عويله يبتعد عن مسمعي حتَّى تلاشى، وأنا أغلق بوابة الحديقة بالمفتاح..

لم أكن أعلم أن المجرم يظل يحوم حول جريمته إلى أن عدت بعد أربعة أيام أتفقد وضع عزام، اقتربت من حافة المسبح قرب السلم فرأيته هادئاً بلا حراك فضغطت بأصبعي فوق القاطع الكهربائي فنزل السلم إلى مستوى عمق مترين ثم قمت بمسح بصماتي من على القاطع، ونثرت بعض التراب الجاف فوقه، وعدت إلى منزل والدي دون أن يعلم أحد شيئاً مما قمت به..

وبعد أسبوع اكتشفت الجثَّة عندما ذهبتُ مع أبي وأخي سعيد وأحد سماسرة البيوت إلى الفيلا، فقد طلب أحد الأثرياء الصِّناعيين مشاهدتها لأنَّه يرغب بشرائها..

ونحن نتجول في الحديقة وصلنا إلى المسبح، وكان المشهد مرعباً هذه المرة بحق، خانقاً ومقزِّزا، فركضت أصرخ من هول ما شاهدت عيناي، وأبي وأخي يركضان خلفي ..

جرى التحقيق حول ملابسات القضية، لكن المحقِّقين لم يتوصلوا إلى دليل يدان به أحد، فسُجِّلت القضية قضاء وقدراً.. حاولت أن أطمرَ السِّر في بؤرة عذابي بعد أن أخذت بثأر سامي، ذلك الرَّجل الوديع الذي لم تستطع الغربة اننزاع طيبته، كما عجز المال في سلبه إنسانيته، فجاء رجل حقود شرس بأحط  خلق، وأقذر طبع، وأوقح عين يقتله خيانة وغدرا..

لم أتمكن من لجم صوت الحقّ ِفي داخلي زمناً طويلاً، وذات ليلة دخلتُ غرفة أمي، بعد أن نام جميع من في البيت، وكانت في هذا الوقت تستعد للنَّوم بعد مشاهدة إحدى التمثيليات التلفزيونية، فانتهزت فرصة انفرادها في غرفتها وكان النوم قد أدرك والدي وهو يشاهد المسلسل التلفزيوني بصحبتها، فنام في غرفة الجلوس بعد أن غطَّته أمي بملاءة سريره، وكان يفضل البقاء في المكان الذي غفا فيه حتَّى موعد أذان الفجر حيث توقظه أمي للصلاة، وهذه عادة درج عليها ولم يخالفها مرَّة خشية القلق إذا ما نـُبِّهَ من نومه قبل الأوان ، فصارحتها بكل شيء ..

 

11

أطرقت أمي وهي تسمعني باهتمامٍ حتى النِّهاية، وأنا أروي لها حكايتي مع المجرم بالتَّفصيل، كانت بين الفينة والأخرى تنظر إلي نظرات تخترق أعماقي بصمتٍ مؤلم، وأحيانًا مخيف، وعندما انتهيت من الكلام، رأيتُ الدُّموع تنهمر بكرم ملفتٍ من عينيها الذابلتين بتقدم العمر، وأنا أنظر في وجهها أتوسل إليها باختناق الكلام في حلقي أن تقول شيئًا يريحني من بركان همي الذي يكاد ينفجر فيحرقني ومن حولي.. لم تقل شيئًا.. صمت معذِّب استمر بعض وقت ما لبثت بعده أن ضمَّتني إلى صدرها، فأحسستُ بدقات قلبها تعلو وتهبط متسرعة، ويداها ترتعشان، ابتعدتُ عنها قليلا أتفحص ما بها، فوجدتُ في وجهها اصفراراً لم أعهده فيه من قبل، سألتها عما بها فأشارت إليَّ أن أحضر لها الهاتف، فعلتُ ذلك دون أن أفكر بمرادها، وعيناي معلقتان بعينيها ذهولاً، رفعتْ السَّمَّاعة، أدارتْ أرقاماً لم أتبينها.. قالت بصوت متهدِّج:- آلو أنا السَّيِّدة جيهان سليم، أسكن في حي المواني، كورنيش، رقم المنزل 48 أرجو أن تحضروا إليَّ السَّاعة، أرجوكم، أرجوكم لا تتأخَّروا، في بيتي قاتلة. وقعت السَّماعة من يد أمي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. يا إلهي ها أنا الآن أجد نفسي في ورطة جديدة، ولكن بموت أمي هذه المرة. أردت أن أصرخ.. أن أستنجد بأهلي.. أن أناديها، أبكيها، ولكن الخوف كمم فمي ولجم لساني.. وجدت نفسي في مأزق حقيقي.. ضممتها إلى صدري.. قبلتها.. همست لها بدموعي: أماه ما أحوجني إليك اليوم.. أريد أن أبكي ولكن كيف.. كيف يا حبيبة؟ لا جواب، يا إلهي قد يصل رجال الشرطة خلال دقائق ليأخذوني إلى السجن متهمة بقتل أمي، رحماك ربي.. لن أجد الآن من ينقذني من حبل المشنقة لأنَّ أمي هي التي أخبرت الشرطة عني.. أجل هي ..ولكنها لم تخبرهم عمن تكون تلك المجرمة، نعم أنا متأكدة من ذلك، علي الآن أن أتصرف بسرعة قبل أن يقرعوا جرس الباب.. تركت أمي فوق سريرها شاخصة العينين دون أن ألمسها أو أغمضهما، وخرجت من الغرفة بعد أن أطفأت النور فيها… أسرعت إلى غرفتي، استلقيت في سريري، والخوف يفتك بأعصابي بينما كانت أختي سماح تغطُّ في نوم عمي ، وصوت شخيرها يملاْ أرجاء الغرفة فزاد في ارتفاع وتيرة انزعاجي درجاتٍ كثيرة ..تأكدت الآن أن الحياة التي نسكنها ليست كلمة نتفنن بنسجها جملا، فتشرق حينًا قصيدة وحينًا آخر قصة أو خاطرة جميلة، الحياة شيء آخر لا تستطيع الكلمات سبر أغوارها، وإنما تلامس منها قشر الجلد فقط، فتدمع العين أو يبتسم ثغر بشعور ما سرعان ما ينطفئ به السراج. لا أدري كيف مرَّ الوقت بسرعة تحت وطأة الخوف، وأنا أصغي إلى صوت محركات السيَّارات وهي تمرُّ من جانب بيتنا، إلى أن قطع حبل استرسالي بالإنصات صوت جرس الباب .. تصنعت النوم خشية أن يراني أحد من الأهل فيشار إلي باتهام ما..

عاد صوت جرس الباب يرنُّ باستمرار مع قرع باليد على الباب الخشبي، وما هي إلا لحظات حتى سمعت في الخارج أبي وأخي وهما يتكلمان بعد أن فتحا الباب للقادمين ..

بقيت هادئة في سريري بينما نهضت سماح وخرجت من الغرفة على عجل ثمَّ عادت من جديد تهزني بعنف وتدعوني كي أصحو من نومي الثقيل هذا، لانَّ مصيبة قد وقعت في البيت..

نهضت من سريري وخرجت أستطلع الأمر الذي جعلنا في دوامة ظلَّت تدور بنا أيَّاماً كثيرة، وكان السؤال الملح الذي حيَّر الجميع: من هي تلك القاتلة التي بلَّغت عنها والدتي قبل موتها بقليل ..

تعرضت وأختي لأسئلة المحققين عدة مرات على الرغم من ظروف العزاء التي ألمَّت بنا.

انتشر في الحارة خبر مقتل أمي على يد مجرمة مجهولة. لكن محضر التحقيق أغلق عندما قال أبي للنَّائب العام إنَّ أمي كانت تشكو في الآونة الأخيرة من مرض عصبي ألمَّ بها إثر سقوطها ذات مساء على رأسها عندما قطع التيار الكهربائي، ومنذ ذلك اليوم وهي تتخيل أشياء غير حقيقية، وأنه كان ينوي أن يستشير طبيباً بهذا الشأن، ولكنَّ الظروف التي مرت بأسرتنا بعد موت سامي أخرت الأمر إلى أن حدث ما كان .لم يعارض أحد من أفراد الأسرة تصريح والدي رغم أننا جميعاً كنا نعلم أن كلامه لا أساس له من الصحة، وإنَّما قاله للتخلص من ملاحقة النيابة العامة لهذه القضية الغامضة بالنسبة لأفراد عائلتي، وأقفل المحضر كما قيل لنا، وبدأت بعد ذلك مشاكل من نوع جديد تغزو عالمي الذي كان يوماً ما هادئاً وجميلاً..

 

12

عندما كنت أختلي بنفسي بعيداً عن نظرات والدي التي كانت تلاحقني بتساؤلات غريبة لم أعتدها منه سابقاً، وكأنَّها تريد النفوذ من خلال عينيِّ المتعبتين إلى أعماق نفسي المتداعية التي باتت غائمة بالنسبة له بعد موت أمي المفاجئ، وما ألمَّ بي من قواصم، والبلاغ العجيب الذي أدلتْ به للشرطة، كنت ألقي بنفسي المتعبة في نوبة بكاء عاصفة، أغسل بها من خلال دموعي شيئاً من الحزن، الذي بات هو الحقيقة الوحيدة في حياتي عبر ما أتجرعه من مرار الأحداث والوقائع التي هزَّت أعماقي بعنف مفترس كاد أن يشلُّ قدرتي على الصمود، وجعلي فريسة سهلة للجنون أو الموت .

شعرت بتغيرات كثيرة في أحاسيسي وأفكاري، وحتَّى في شكلي الخارجي، فقد أدى إحجامي في غالب الأحيان عن الطعام إلى إصابتي بالنحول، ورعشة في اليدين، وفقد الثقة بكلِّ من حولي، مما جعل أختي سماح تطلب مني الذهاب إلى الطبيب لإجراء فحوص شاملة للاطمئنان على وضعي الصحي، فرفضت الفكرة، ولذت بالصمت مما أودى بي إلى وضع صحي أسوء بكثير من ذي قبل، ويومًا بعد يوم راح الصراع الداخلي يشتد بي، وأنا احترق بصمت، أتقلب على جمر الحيرة، وتلعب بي شتى الوساوس، وأنا ونية لا حول لي ولا قوة محاصرة بالأوهام من كل جانب لا أدري كيف أطفئ هذه النار، التي راحت تلتهم داخلي بقسوة وشراسة..

مضى على وفاة أمي أسبوعان، ونفسي تزداد انغلاقاً وكآبة، لم تستطع خلالها خالتي بهيجة أن تخرجني من دوامة عذابي رغم حنكتها الفائقة، ومحبتي الكبيرة لها، وقرأتُ في وجوه جميع من حولي القلق الكبير تجاهي..

في إحدى الأمسيات وبعد العاشرة دخلت المطبخ لشعوري بجوع مباغت يقرص معدتي الخاوية، فتحت الثَّلاجة، وتناولتُ تفاحة، ورحتُ أقشرها، وقبل أن أضع أول قطعة منها في فمي، سمعتُ أبي يقول: هل ستأكلين التفاح دوني أيَّتها المليونيرة الكبيرة؟

همست في داخلي: مليونيرة؟!! نعم، ولكنني لن ألمس هذا الميراث الخيالي قبل أن تعود الطمأنينة إلى نفسي.

نظرت إليه وهو يدخل المطبخ قائلة: ظننتك نائماً، خذ هذه وسأحضر لي واحدة غيرها.

تناول التفاحة من يدي عائدًا إلى غرفته بعد أن همس لي: سأنتظرك في غرفتي لنأكل التفاح معاً، ونحن نتحدث في موضوع هام..

ارتجف قلبي، واضطربت أعصابي، ولكنَّ أبي ترك لي فرصة الهروب من نظراته، عندما غادر المطبخ إلى غرفته بعد أن ألقى إليَّ أمراً لا أدري ما وراءه..

دخلت عليه مجلسَه وقد استنفرت كل جيوش خوفي وشكوكي.. رحب بي وهو يشير بيده اليمنى نحو باب الغرفة: أغلقي الباب وراءك وتعالي اجلسي هنا بالقرب مني يا ابنتي..

كلمة ابنتي جعلتني أرتشف من كأس الطمأنينة رشفة عطفٍ أثلجت صدري بعد أوار الحريق فيه دون قطرة مزنة بشرٍ تخفف من لهيب النار التي تفترس قلبي بضرام القلق بعد أن فتك الخوف بي، وسلبني راحة البال، وزوج من أفضل الرجال.. قبل لحظة فقط كنت أحسب أن أبي قد علم شيئاً عن موت أمي الغامض، فأزاح برقته هذا الهم عن نفسي..

جلست بالقرب منه على حافة سريره.. ابتسم لي ابتسامة حزينة، وهو ينظر إلى سرير والدتي المهجور، وسبحتها الخضراء معلَّقة فوق عنق السرير الذي رافقهما منذ زواجها قبل خمسين عاماً.

التاع صدري بالألم، وانهمرت دموعي وأنا ألوذ بالصمت، فقال لي وهو يمسح الدموع عن وجهي بمنديل ورقي تناوله من جيبه:- كلنا سنموت وهو الوارث… سبحان الحي القيوم..

نظرت إلى وجهه الذي أحبه، فرأيته قد ثبت عينيه في عينيَّ، وكأنَّه يأمرني بقول الحقيقة، شعرت بالخوف منه، واستعدت لحظات مرَّت بي من أيام طفولتي عندما كنت أقترف ذنباً ما كيف كان ينظر إلي هكذا دون أن يتكلم، فأجْبَرُ على الاعتراف له بكل شيء بطريقة لاإرادية، والآن تعاودني هذه المشاعر، وأحس بأنني قد عدتُ طفلة صغيرة، وأنا بأمس الحاجة لمن يحتويني، ويزيح عن كاهلي تلك التراكمات التي أضنتني، وسرقت مني ابتسامتي وعافيتي، وأمني النفسي..

 

13

لا أدري كيف همست من خلال دموعي : لم أقتل أمي يا أبي… إنَّني أحبها وأنت تعلم ذلك، وهي أيضاً كانت تعلم مدى حبي العظيم لها..

قال ويده الحانية تمسح شعري، وكأنَّني في الخامسة من العمر: أعلم ذلك يا بنيَّتي، ولكن اصدقيني القول، لماذا أخبرَتْ المرحومة  الشرطة بأنَّه في البيت قاتلة.. أمُّك لا تكذب يا سناء، ولا تهذي كما قلت للمفتش عند التحقيق؟

قلت : صدقتَ وهي الصادقة ..

فقال لي: من قتلتِ يا سناء؟

تنفستُ بعمق قبل أن أقول: تسمعني حتى النهاية، ولك بعد ذلك حريَّة التصرف؟

فقال لي: تكلمي يا ابنتي، وليكن الله في عونك وعوني..

قصصتُ عليه ما حدث بالتفصيل.. كانت دموعي ترافقني في كثير من المحطات، ويده الحنونة بحرارة الأبوة والمحبة تمسح عن عيوني حرَّ الدموع، ووجع الصمت الطويل..

وعندما وصلتُ إلى الوقت الذي نحن فيه قلتُ له وأنا أشعر بقوة غريبة تتملّكني: أحس باحتراق داخلي المتفجر، أه يا أبي ما أصعب الاحتراق، و ما أشد حرارته على النفس..

قال بحنان: الكلُّ يحترق، ولكن بشكل يختلفُ بتفاوتِ الذَّواتِ المحترقة، وما شبَّ حريقٌ، وتأجَّجَ ثُمَّ خمد إلا وتركَ بقايا من رماد، فلننظر في تلك البقايا النَّاعمةِ الملمس،الخفيفةِ الوزن.. ما هي؟

فقلت له وقد أحسست بنفحة أمل تهب صوبي من خلال همساته الدافئة :

إنها بقايا المحروقات، رمادية اللون، لا قيمة لها، تذروها الرِّياح، بل حتَّى النسيمات قد تجعلها هباء منثوراً. لا يا أبي لن أكون أضعف من نُسيمة، أنا أقوى من الرِّيح، أصدُّها بجرأتي وإيماني، أنا أجلُّ قدراً من الرَّماد مهما كانت محروقاته، لاشيء يستطيع إحراقي، وما هواجسي إلا همسات خفية، سأسخر منها قبل أن تحيل شموخ َصمودي إلى رمادٍ لا قيمة له، بل سأحدِّق في ذاك الرَّماد وأشكر الله إذ خلَّصني مما كان يعذِّبني.

نظرت في وجهه وجدت دموعه تتدفق فوق خديه. قلت له:

– كنت مخطئة حتَّى الثمالة، فالرَّبُّ واحد والعمر واحدٌ، ويبقى الزمنُ الساكنُ فينا بيتاً لنا نحتفظُ في أيامِه بــ نحنُ، وعندما تفارقنا الــ نحنُ نفقدُ بيتَنا ونعودُ نوراً ..

قال والدي بفرح وهو يمسح الدموع: لقد تخلَّصت من الخوف يا ابنتي ، ونجحت بالاعتراف

قلت: نعم ولك يعود الفضل… كنت غافلة يوم أخفيتُ عنك الحقيقة.. الغفلة يا أبي ليست غباراً بل هي أديمٌ من صدأٍ لا يزيلُهُ إلا القشرُ، وإن أوجعَ.

-ابتسم قائلا: صدقتِ يا ابنتي.. قد يكونُ القشرُ صعباً، وإنَّما الغفلةُ أصعبُ، وعندما يشفُّ الوجدُ ويرقُّ القلبُ، وتجري العينُ خشوعاً ورهبةً ويُخدرُ الجسمُ بالسموِّ، فيستأصَل المرضُ، والنفسُ ترفلُ بالصفاءِ سعيدةً مبتهجةً..

فقلت له: راضية بالعقاب أو الثواب مادامت تقر بذنبها وتسعى للتطهر منه.

ضمَّني إلى صدره بعطف غامر، فأحسست بدموعه ترطب وجهي، فقال لي وصوته يختنق بالأسى: غداً نذهب إلى النيابة العامة لتعترفي، ولتأخذ العدالة مجراها، و معك ابن عمك الدكتور أنيس الذي خان الأمانة والقسم، بإعطائه التقرير الطبِّيِّ الكاذب للتَّصريح بدفن المغدور سامي، دون الكشف على الجثة، وهذا عمل يمقته الله ويعاقب عليه القانون ..

قلت: كما تشاء

– صدقيني يا ابنتي لو أن ( د. أنيس) قام بما يمليه عليه واجبه المهني، والديني لما كنا في هذه المشكلة .

فقلت له: كان أنيس مشغولاً في المستشفى، فأرسل إلينا التقرير الطبي بإلحاح مني، وأنا تقصَّدَت ذلك كي أنتقم لزوجي من قاتله..

– إنَّه مخطئ، يجب أن لا يسمح لأحدٍ بمخالفة الشرع والقانون مهما كانت الظروف، غداً سأبلغ عن ابن عمك الدكتور أنيس، ولن أتخلى أبداً عن اتهامه بالمساعدة في ارتكاب الجريمة بطريق الإهمال، إضافة إلى طمس معالم الجريمة بدفن سامي دون كشف الطب الشرعي على الجثة، ولكن ربما يستطيع المحامون الذي سيتولُّون الدفاع عنك إيجاد طريقة لمعرفة الحقيقة .

قلت له: حسنًا، ولكنَّني سأذهب قبل ذلك لمقابلة هنية زوجة عزام، أريد أن أعطيها من المال ما يساعدها في تربية ابنها رشاد ..

– خيراً تفعلين..

وافقته بابتسامة رضا ثم خرجت من غرفته، بعد أن طبعت على خده قبلة شكر وامتنان، وأنا أحس بأنَّني بدأت أولد من جديد..

 

14

برفقة سماح خرجت من البيت في الصباح الباكر، كانت أختي عصبية المزاج سريعة الانفعال حتَّى أنها تشاجرت مع السائق الذي أقلَّنا بسيارته إلى قرية هنية.

التزمت الهدوء طيلة الوقت كي لا أضيف إلى اضطرابي مزيداً من القلق.. وصلنا القرية الصغيرة الهادئة في الضاحية قبل الساعة التاسعة صباحاً..

بدت القرية حزينة، أو كما خُيِّلَ إليَّ، فكل ما فيها يوحي بالكآبة، الشوارع ضيِّقة رغم اتساع المساحات الزراعية حولها، أكثر ما لفت انتباهي أولئك الأطفال الذين كانوا يلعبون في الحارات الضيقة، وهم حفاة الأقدام فوق أرض مليئة بالأوساخ، وبقايا من الزجاج المحطم..

صوبتُ نظري إلى الأمام مسرعة نحو بيت هنية يدلنا عليه أحد الصغار بعد أن أعطيته ورقة نقدية دسَّها في جيبه فرحاً بها، وكأنه وقع على كنز ثمين..

وقفت أمام الباب الخشبي المشقق بتقادم الزمن، نقرت بأصبعي عدة نقرات، بينما راحت أختي تنفخ من جوفها حرارة الضيق والاشمئزاز زفيراً ساخناً امتعاضاً من كل ما حولها في هذه القرية..

ربَّما مرَّت دقيقة أو اثنتان ريثما فتح الباب، وقفتُ بعدها وهنية وجهاً لوجه..

أرملتان تلتقيان تجمع بين مصيبتهما الجريمة، هي فقدت زوجها وأبا ابنها، وأنا فقدت زوجي، حبيبي.. ابتسمتُ لها فابتسمت لي بدهشة عقدت لسانها بعض الوقت رحَّبتْ بي بعدها، ودعتني للدخول، تبعتها وأختي إلى غرفة صغيرة هي الوحيدة في هذا البيت الذي يقبع وسط القرية، ولا متنفس له سوى فسحة دار ضيِّقة جداً ومكشوفة .

سألتها عن أحوالها العامة، عن ابنها رشاد، فأخبرتني بأنه يشكو من التهاب رئوي حاد، وهو يُعالج في مستوصف القرية مجاناً، وقد ذهبت به أمُّها قبل قليل إلى هناك لإعطائه حقنة مضادة للالتهاب، بكت وهي تثني على والدتها التي فتحت لها قلبها وبيتها بعد أن طردها عزَّام من بيته ظالماً لها ولصغيره رشاد دون عذر أو سبب.

انتهى حديث المجاملة بيننا، واحترت كيف سأقدم لها المعونة المادية إلى أن قطعت الصمت بقولها: رحم الله( عزام ) لقد ودع الحياة بطريقة غريبة، ولكن الذي يحيرني ولم أجد له جواباً مقنعاً هو ذهابه إلى البيت الكبير بعد إخلائه، وإطفاء الأنوار فيه؟ وكيف مات ولماذا كانت نهايته في أرض المسبح؟

وكيف دخل الحديقة، وهو لا يملك مفتاحاً للباب؟

ثمَّ يقيد الحادث قضاءً وقدراً.

تصنعت الحزن وأنا أهز برأسي أسفا. تابعت كلامها :

– أمر غريب يا سيدة سناء، إنني حزينة من أجله رغم أنَّه أساء إليَّ كثيراً قبل موته، كان يريد أن يطلقني ، ولكن الموت لم يمهله لينفذ ما عزم عليه، سيعاني صغيره رشاد اليتم والفقر إلى ما شاء الله.

نظرت إلى سماح ففهمتْ ما أريده منها، فنهضتْ من مجلسها وخرجتْ من الغرفة إلى الدار، بينما تناولتُ من حقيبة يدي شكاً وقدَّمته لها فسألتني: ما هذا يا سيدتي ؟

فقلت لها: هذا شك بمبلغ كبير من المال لك ولابنك رشاد تصرفينه من المصرف البلدي في العاصمة، وتشترين بيتاً ومفروشات، وما تحتاجينه من مستلزمات أخرى..

فقالت ولِمَ كل هذا المال يا سيدتي؟!!

فقلت لها خذيه الآن وستحصلين على ما تشائين منه بعد نفاذه ..

أحسستُ بالفرحة تحتلُّ كيانها، وكأنَّها لا تصدق عينيها وعندما اتجهت نحو باب الغرفة استوقفتني قائلة:

– مهلا لدي شيء سأعيده إليك يا سيدتي .

سألتها: ما هو ؟

فتحت درجاً في خزانة ملابس جانبية قديمة، وأخرجت من تحت الأغراض في أرض الخزانة منديلاً أبيض اللون، حلَّت عقدة كانت فيه، وتناولت منه خاتماً وقدمته لي قائلة: هذا الخاتم أهداه المرحوم السيد سامي لعزام قبل أن يموت بساعتين، وقد خبَّأه معي يومها، ولم أعطه له عندما طلبه مني أكثر من مرة بحجَّة أنَّني أضعته، فتوعَّدني بانتقام قريب.. كنت سأحتفظ به لرشاد، وألبسه إياه في أصبعه عندما يصبح شاباً..

نظرت إلى الخاتم، وأخذته من يدها تفقدته بذهول وقلت:

– إنَّه خاتم سامي.. أجل كان يلبسه يوم الحادث.. إن ثمن هذا الخاتم باهظ جداً.. أنظري إلى الفص الماسي، إنَّه يساوي خمسة آلاف دولار كما أخبرني ..

فقالت هنية: ولكن السيد سامي أهداه لعزام ..

فقلت لها: أتصدقين ذلك يا طيِّبة القلب؟ لقد سرقه منه بعد أن قتله. ..

فصرخت هنية بخوف مفاجئ : قتله؟!!

فقلت لها: نعم وأنا سمعته وهو يقتله، ولكنني لم أستطع أن أفعل شيئاً في ذلك الوقت لأنني كنت وحيدة في البيت وخشيت أن يقتلني إن هو أحس بأنني علمت بذلك.

– فصرخت: أيعقل هذا يا سيدتي، عزام يقتل من أكرمه ورفعه من الحضيض إلى النعيم؟

– هذا ما حصل يا طيبة، هنية أريد منك أن تشهدي بالحقيقة في المحكمة ؟

فقالت: ضد من سأشهد يا سيِّدتي؟

فقلت لها: لن تشهدي ضد أحد، فقط قولي الحقيقة، ومن أين حصلت على هذا الخاتم..

فقالت هنية: حسناً سأفعل ذلك، ولكن لماذا لم يلفت انتباهك اختفاء الخاتم بعد موت المرحوم ؟

فقلت لها: إن مقتل سامي طغى على كلِّ ما عداه، ولم أفكِّر بأمواله، أو بما خلَّفه لي من ميراث ضخم قبل هذا اليوم الذي نويت زيارتك وتقديم المعونة لك ولابنك، ستعرفين في المحكمة كلَّ شيء،كلَّ شيء يا أمَّ رشاد، ستفاجئين بأمور كثيرة وأتمنى أن تجدي لي عذراً فيما فعلتُ..

15

أحسست بحاجة للانفراد بنفسي قبل مرافقة والدي إلى مخفر الشرطة، وتسليمي للسُّلطات القضائيةِ المختصَّة هناك، دخلت غرفتي المشتركة مع أختي سماح وأغلقت ورائي الباب. داهمني ارتباك مفاجئ ربّما كان دفيناً تحت وطأة الحوادث الكثيرة التي مازلت أمرُّ بها، فوجد بتسارع الوقت فجوة للعبور منها إلى الوعي بفوضى لاشعورية، فانتابني إحساس غريب كما لو أنَّني أواجه الصدمة للمرة الأولى، يا إلهي في أي هوَّة وقعتُ؟!! الأمر ليس سهلاً كما كنت أتصوره بعين المثالية التي لا توجد إلا في كتب الأخلاق، وعالم الخيال، وإن وُجِدَتْ في الحقيقة فقد تكون نقطة في محيط، فهل سأكون أنا هذه النقطة في محيطٍ خلع عنه عباءة الخير وتلبَّس الخداعَ بأدنى مستوياته؟! ولماذا سأضحي ولأجل من؟ قد يلف حبل المشنقة حول رقبتي، والروح غالية، أوقد أسجن مدى العمر، وقد يكون السجن لسنوات مع الأشغال الشاقة، وحتَّى لو كان عاماً بل شهراً أو ليلة واحدة، فليس باستطاعتي تحمل العيش في الزنزانة مع نساء محكوم عليهن بجناية ما، فهناك القاتلات والمهرِّبات والدَّاعرات وبينهن فاقدات العقل.

لطفك يا رب لقد عرفت الآن قيمة الحرية، إنَّها أجمل شيء في الوجود بعد الإيمان.

ضاقت أنفاسي، فأجهشت بالبكاء، وراحت دموعي تتدفَّق بسخاء، بينما أصابت يديَّ برودة مصحوبة برعشة مزعجة.

غزتني الرهبة بكل معداتها الحربية ومقاتليها، فانهزمتْ قدرتي في المقاومة، وتقوقع خوفي من أبى في ركنٍ مهجور من فكرةٍ باهتة، وتبعثرتْ أفكاري في اتجاهاتٍ مختلفة. أحنى الخوف ظهري وتجسدت لحظة الاعتراف طودا مطبقا فوق صدري، أجل هي لحظة فارقة في حياتي، وبين اللحظة واللحظة برزخٌ مجهولٌ لا يعلمُه إلا منْ سوَّاه، سبحانه كم نفس تقبضُ بين شطَّيهِ؟ .. كم دمعة تسكبُ بحرقةٍ أو بفرحٍ، كم من دمٍ يهدرُ قبلَ بلوغِ الشَّطِ الثاني بين اللحظةِ واللحظةِ؟

أيقنت الآن أنني أنثى ضعيفة جداً رغم كوني قاتلة، ولكن ماذا سأفعل بعد أن أخبرته بكلِّ شيء، هل أعود فأقول له بأنني قد تراجعت عن قراري الرَّصين، ومزَّقتُ أوراق اعترافي؟ ليتني لم أعترف .

إنَه الآن ينتظرني في الخارج ليذهب بي إلى السجن، ترى هل هو جادٌ في قراره؟ أيسلم ابنته بيده إلى حبل المشنقة؟!! هل وصلت به المثالية إلى هذا المستوى من التضحية وهو يعلم أنَّني ما قتلت إلا انتقاماً لزوجي؟ نعم سيفعل ذلك لأنه يطمع بمحاكمة عادلة تنصفني في الدنيا والآخرة، ولكنني قاتلة ومتسترة على جريمة قتل، ومسببة في موت أمي، عقابي سيكون شديدا لا أستطيع تحمله. لا لن أسلم نفسي أبداً، وإن أصرَّ والدي على ذلك، أجل لن أعترف أمام المحقِّقين، أنا لست مجنونة كي أفعل ذلك، سأهرب من البيت قبل أن يذهب بي إليهم.

نهضت على عجل ووجل، فتحت خزانتي وأخرجت منها حقيبة ملابس فارغة رحت أضع فيها بعض الحاجيات التي قد تلزمني أكثر من غيرها، وما نسيتُ أن أدس في حقيبة يدي مبلغاً كبيراً من المال قد أحتاج إليه أثناء هروبي من البيت، ووضعت بداخلها بعض المجوهرات وخاتم سامي ومجموعة الصور التي تجمعني به وحمالة مفاتيحه الخاصة ودفتر شكاته، فقد استودع قبل وفاته أموالًا كثيرة في البنك لضرورة ملحة ترتبط بتحويلات نقدية لإحدى الدول الغربية بعد الصفقة التجارية التي أنجزها، الخاصة بمعدات التجهيزات الطبية للمشافي بشكل عام، وكنت قد أعطيت هنية شكاً من هذا الدفتر عندما قمت بزيارتها، ووضعت في حقيبة الملابس ما يخص سامي من مستندات هامة.

خرجت من الغرفة وأنا أحمل الحقيبة بيدي، كان أبي مستغرقاً في صلاة سنة الضحى بينما سماح في المطبخ تنظف بعض الأواني التي ملاْ صوتها المكان، خرجت من البيت بهدوء وحذر، وتركت الباب مفتوحاً خشية أن يلفت صوت إغلاقه انتباههما.

التفاتة سريعة تلقَّاها باب بيتنا من الهاربةِ أنا، كانت بمثابة تحيَّة الوداع استعرضت خلالها شريط الذكريات التي عشتها مع أهلي في هذا البيت الكريم الذي تربيت فيه على الإيمان والصلاح، صور كثيرة تزاحمت على نوافذ ذاكرتي المضطربة لعلَّ أجملها وأقربها إلى نفسي كانت صورة والدتي ونحن نحتفل بها عندما عادت من الحج قبل عشر سنوات، رأيتها تبتسم لي بمحبة وحنان، فعلـَّقتُ بعينيها خوفي وضعفي وقلة حيلتي ورجوتها أن تسامحني.

كدت أسقط بالخنوع والعودة إلى البيت فأغلقت عينيَّ لأطرد كلَّ الذكريات ولأرى طريقي وأنا أنزل من الطابق الثاني على درج العمارة باتجاه الشارع العام .

وصلت الطريق ربما في الوقت الذي خرج به والدي بالتسليم من الصَّلاة، مازال أمامي بضع دقائق أستقلُّ خلالها سيَّارة أجرة تبعدني عن البيت ريثما يتفقَّدني والدي ويبدأ البحث عنِّي.

بشيء من الرتابة سألني سائق السَّيارة التي مرَّت في اللحظة الحاسمة من قربي: إلى أين تودِّين الذهاب؟

أجبته بقلق: إلى أي مكان

فسألني بخبث: أينَ يعني؟

استدركت الأمر خشية أن يظنَّ بي سوءَ فسألته بجدية: ألا تعرف مطعم أي مكان، وكنت قد نطقت به دون معرفة)؟ إنَّه في وسط المدينة قرب حديقة النَّوافير.

أجاب ببرود: أعرف الحديقة فقط.

فقلت له: حسناً خذني إليها إذاً.

وقبل أن تبتعد السَّيارة عن بيتنا بمسافة طويلة رأيت والدي يخرج من بوابة العمارة ملهوفاً، وهو ينظر يمينةً ويسرة علَّه يجد ضالته الهاربة، ولكن عبثاً كانَ يحاول، فودَّعته بدموع ساخنة، وأنا أعلم بهمِّه الكبير وحزنه العميق، وما هو فيه الآن من عذاب وقلق، فكنت في هذه اللحظة أشدَّ مقتاً لنفسي من أي وقت مضى.

 

16

ربما كانتْ الأرواحُ التي تسكننا مرآةَ صفاءِ النفسِ في حياتِنا، بها نفرحُ وبها نحزنُ، وبها نهاجرُ من لحظةِ العدمِ إلى لحظةِ الإشراق، فنرى الكونَ هالةً من نورٍ خلابة واسعة بوسعِ الفِكرِ والإحساس.. لا يحدُّها زمانٌ ولا مكانٌ، هناك في هذا الجمالِ اللا متناهي أجدُ نفسي في كثيرٍ من الأحيانِ محلقةً بقلبٍ غير القلبِ الذي في صدري، وعيون غير عيوني، وإحساسٍ غير إحساسي.. أجدني أثيرًا خفيفًا شفيفًا.. اِشتقت لأنُسِ روحي الذي هجرني بمقتل سامي، فليسَ أجمل ولا أرقى من الشعورِ بها، والعناق معها جسداً بروحٍ..

نزلت من السيّارة قرب الحديقة، واتجهت إلى بابها الرئيسي، وأنا أحمل حقيبة ملابسي وممتلكاتي الثمينة، وعندما جلست على مقعد جانبي في مكان قليل الناس، شعرت بطمأنينة تزيح عن نفسي هماً أوشك أن يقتلني، ولكن صورة أبي وهو يبحث عني في الشارع ظلَّت تطاردني بشراسة تأنيب الضَّمير، فأجبرتني على مغادرة الحديقة إلى أقرب هاتف في الطريق .

أخبرت سماح بأمر مغادرتي البيت، ولكنني لم أوضِّح لها سبب ذلك، وعلمت منها أن والدي لم يخبرها شيئاً عمَّا حدث، وطلبت مني العودة إلى المنزل أو الذهاب إلى بيت أحد أشقَّائي، أو أخواتي، أو إلى البيت الكبير، وأنها على استعداد للعيش معي هناك، رفضت طلبها، وقلت لها بأنَّني سأظلُّ على اتصال بها وما عليها سوى أن تعتني بوالدي جيداً، وتخبره والجميع بأنَّني بخير، ودعتها وهي ترجوني العودة إلى البيت، لكنني لم أستجب لتوسلاتها، ولم أعلمها بما حدث فهي حتى الآن لا تعرف بأني قتلت( عزام) وأن أمي ماتت بسببي، وكان والدي كتوماً لا يؤدب أحدنا أما م البقية، ويفضل أن يكلمه على انفراد كي لا يهدر كرامته أمام الجميع إذا اضطر يوماً لذلك ..

لم يكن في مخيِّلتي أي هدفٍ محدَّد أتوجه إليه، فرحت أسير في الطريق أشبع عينيَّ من جمال الموجودات التي تمر أمام ناظري رغم أنها لم تكن تجذبني من قبل، وأشكر الله أنَّني لم أسلم نفسي للشَّرطة.

أحسست بشي من السرور المبطن بالخوف، ورغم ذلك كان عذباً ظلَّ يداعب خيالي باماني وأحلام جميلة بعيدة عن السجن، وحبل المشنقة ، إنَّه الأمل الذي نحاول الوصول إليه والتَّشبُّث به، ولكنَّه في هذا الزَّمن المارق زئبقٌ لا نستطيع إمساكه، هو غصَّة ٌفي القلوبِ، دمعةٌ في العيـونِ، ورهبةٌ في الخيـــال، هو أشبه بالمُحال، هو نغمٌ عذبٌ تعزِفـُهُ الأمَاني على أوتارِ الرُّؤى، نسمعُهُ أنينا مُحرِقاً يُلهبُ المشاعرَ بالحرمان، يفجِّـر فينا براكينَ الحقدِ على منْ قيّـَدَ الأملَ بسلاسلِ الظــُّلمِ، ويفتحُ في معاقلِ البوْحِ نوافذ الثـَّورةِ ضِدَّ منْ حجبَ الشّمسَ عنْ صَباحاتِ أيَّامِنا النَّقيَّةِ، وأرْخَى سدولَ الليل على صفاءِ أفكارِنا، ولكنْ يظلُّ السُّؤالُ محيِّرا هلْ يَسمحُ الطـُّغاةُ لنا بالحِفاظِ على تلكَ النَّوافذِ مشرَّعَة  للضـِّياء؟

قد يكون الظلم قوة ولو من ضعيف سخيف، وقد يكون ضعفاً من استكانة قويٍّ نبيه، قد يكون الظالم جباراً وقد يكون جبانا، ويبقى الطغاة أسلحة بيد الشرِّ فهل أنا طاغية؟!

لا أنا لست كذلك، ولكنني قاتلة لم أرحم ضعفه، لم أستجب لنداء الخير في ذاتي المؤمنة، فانتصرت للشَّر بحجة الثّأر لزوجي، فأي نقاء هذا الذي أدعيهِ؟؟؟؟!!

أجل هذا ادعاء، كنت أخاف أن أقتل صرصوراً فقتلت إنساناً، وألقيت طفلاً في جحيم اليتم، ولكن هو الذي قتل أولاً، والنَّفس بالنَّفس والبادئ أظلم .

نعم نفس سامي بنفس عزام، وهو أظلم، قتلته به، وإن كان لا يساوي منه شعرة، لقد نصَّبتُ نفسي قاضية ومنفذة لحكم الإعدام!!

أي شهامة هذه ؟!!!!

وأنا في خضم هواجسي أحسست بقبضة قوية تمسكني من كتفي، كدت أشل خوفاً لولا أن أتاني صوت من خلف رأسي سبق الشَّللَ إليَّ: أخيراً وجدتك!!

حدثَّتني نفسي بأنَّ والدي قد أخطر الشرطة بأمري، فخرجوا يبحثون عنِّي، وقد وقعت فريسة سهلة في فكٍّ لا يرحم، وضعت يدي على رقبتي فشعرت بقسوتها كحبل المشنقة.

لم استطع الالتفات لرؤية المتكلم بسبب إصابتي بهبوط أو ارتفاع في ضَّغط الدَم لم أعد أميز بينهما، غير أنَّي سمعت في رأسي صدى ضربة قوية كتلك التي يضعونها في الأفلام السينمائية عندما تحدث مفاجأة ما، وقد أحسست بها الآن، فسرقتْ مني نصف عمري، ولا أدري كيف سأصرف العمر الباقي منه.

بحركة لاشعورية شددت يدي على مقبض الحقيبة، وأطلقت العنان لقدميَّ، ورحت أركض في الشارع، والناس تنظر إلي بدهشة لم أعرها أدنى اهتمام، وصوت الرجل يناديني، ويأ مرني بالوقوف، وصوت أقدامه أحسبها صوت سنابك خيل في ساحة حرب حمي فيها الوطيس، وأنا اشد بالجري إلى أن تعثَّرت قدمي بحجر فوقعت أرضاً، وقبل أن أنظر إليه جذبت حقيبتي نحوي وضممتها بكلتا يدي إلى صدري مغمضة العينين. كان جمع من المارة قد تحلّق حولي، فأصابني الذعر ورحت أرتجف كعصفور صغير، أصوات كثيرة كنت أسمعها ولكنَّني لم أفهم شيئاً من الكلام الذي ضج به الجميع، إلى أن أحسست بيد تمتد نحوي في محاولة لرفعي عن الأرض، فتَّحت عينيَّ فرأيته أمامي، وهو يقول لي :

– لماذا هربت مني أنا يا سيِّدتي، أنا لست مجرما .

أطلت النَّظر في وجهه، والدموع تنفر من عيني فسألني: مابك هل هناك ما يخيفك؟

تذكرت سامي ربما لمروري في يوم ما بنفس تجربة الخوف تلك، ولكن باختلاف الظرف، والشخص، والمكان.

ولكنه على أية حالٍ ليس( سامي) وهذا الوجه لا أعرفه.

 

17

قبل أن أنهض من انهياري فوق الأرض مدَّت إحدى النساء يدها ورفعتني بها، بينما أمسك أحد الحضور بقميص الرجل، وراح يضربه وينهره ويهدده بتسليمه للشَّرطة، والرجل يحاول أن يبعده عنه ويقول في محاولة لإقصاء التهمة عنه:

– لم أزعجها بشيء.. هي ركضت في الطريق.. ما ذنبي بما وقع لها.

نظر إلي : أليس كذلك يا سيِّدتي؟ أرجوك تكلَّمي.

تنفَّست الصعداء وأنا أنفض عن ملابسي آثار التراب التي علقت بها وصدري يعلو ويهبط خوفاً وتعبا قلت:

– بلى هو كذلك، ولكن ليس من اللائق أن تضع يدك فوق كتفي.. كادت روحي تخرج بقبضتك الثَّقيلةِ يا أخي.

قال بخوف شديد: كنت أريد منكِ صدقة لوجه الله.

فقال أحدهم: إنه شحاذ مجنون تعود مفاجأة المارة بهذه الطريقة، سنذهب به إلى المخفر، وهناك سيجد من يحسن تأديبه عندما تقدمين بلاغاً ضده بالاعتداء عليك.

قال الشحاذ: أرجوك يا سيِّدتي لا تدعيه يفعل ذلك، أولادي جائعون ينتظرون عودتي إليهم بالطَّعام .

رقَّ قلبي لحاله، وانتابني الهلع من الذهاب إلى المخفر، فقلت لممسكه:

– دعه يذهب على ألا يكرر هذا العمل مرَّة ثانية .

شكرني الشَّحاذ وانفضَّ الناس من حولي، فأخرجت من حقيبتي مبلغاً من المال وقدَّمته له.. أخذه فرحاً شاكراً، وعندما راح يبتعد عني رأيته يتعكَّز على عصاه، ويخطو بعرج محزن، فمضيتُ في طريقي أرثي لحاله، وأنا أعرج بخواطري حيثما اتفق، وأخلع عن نفسي رداء الخوف من قبضة الشَّحّاذ الرَّهيبة تلك، وما كان سيصيبني من الشرطة لو أني وافقت الرجل الآخر، وذهبت معه إلى المخفر.

سمعت أذان الظهر ينادي للصَّلاة فدخلت أول مسجد مررت به، وكنت على وضوء، فقد تعوَّدت منذ أن كنت صغيرة ألا أخرج من البيت دونه، خشية أن تفوتني الصلاة في حال تأخري خارجه.

أديت الصلاة في المكان المخصَّص للنِّساء، وجلست بعض الوقت أتلو سورة الأنعام بعد أن أخذت مصحفاً من فوق أحد الرفوف الجانبية .

في بيت الله تثلج الطمأنينة القلب، ويظهر الفارق بين المطيع لله وبين العاصي له الذي تأكل النار كبده.. ثمَّة أحاسيس متباينة كانت تنتابني بين الفينة والأخرى، فكنت ألوم نفسي حيناً، وأشفق عليها حينا آخر.. رفعت يديَّ بخشوع إلى السَّماء، ورحت أدعو الله بدموع الألم وأسأله أن يكون معي، ويساعدني فيما أنا فيه، ويلهمني حسن التصرف.

لحظة صفاء روحيٍّ أعيشها الآن، أتشبثُ بها، أحضنها بقلبي، أرعاها بوعيي، أزرعها نقاءً.. نوراً ومحبة، أسقيها أحلامي.. آمالي، أسمو بها فوق الشبهات، أحلق حيث النور يكتسح الظلام، يغسلني من آثام باطنة، وأخرى ظاهرة، أصبحت شفيفة كما روحي النقية،، وعندما عدت بها إلى حيث العمر ما زال يدور، وجدت نفسي حاملة المسك الأبدية رغم كل ما أحمله من هموم ومشاكل وآلام.

بالقرب مني كانت تجلس سيدة في السِّتين من العمر تقريبا ربما سمعت توسُّلي إلى الله، فوقع في نفسها عطف علي.. سألتني عن همي فأخبرتها بأنَّني غريبة، وأخشى أن أذهب إلى الفندق دون محرِم، فدعتني للمبيت عندها.. كيف سيكون ذلك وأنا من أنا بالنسبة لنفسي؟ ضج رأسي بمعرَّفي، هويتي، وبذكريات الماضي القريب منه والبعيد، آه من الذاكرة بكل مافيها من عمرعشتُه نبضة، نبضة، حفرت فوق أديم لحظاته تفاصيل حياةٍ ماعادت إليَّ يوماً في غفلة من عيون الوعي إلا أسعدتني رغم وشاحٍ قديكون ليلي اللون، لكن ما همني اللون الآن مادامَ للطعم جمالٌ آخر… دمعة.. بسمةٌ، فنداءٌ يهزُّ أعماقي وكأنني أصطاد من ألق النور ومضاتٍ تضيء لي طريق المستقبل فتسعدني وإن تعثرت بحَرِّ دموع.

هي أرملة، ليس معها في البيت إلا بناتها الأربع، وهنَّ شابات يدرسن في الجامعة بصفوف مختلفة.

شكرتها معتذرة عن قبول الدعوة، فأشارت عليَّ بأن أذهب إلى بيت الطَّالبات حيث تديره سيدة محترمة، ولا يدخله من الرِّجال إلا أهالي الطالبات عندما يحضرون لزيارة بناتهم حيث يوجد غرفة مخصصة لاستقبال الضيوف.

كتبت لي العنوان على ورقة صغيرة وسجَّلت رقم هاتف منزلها، فقد أحتاج لمساعدتها يوماً، فأجدها أمامي.

أحياناً تختنقُ الكلماتُ بالحزن.. ترفضُ البوحَ خشية ازديادِ النزفِ الموجع، وتفجُّرِ الاحتقانِ المزمنِ بالقلقِ، فتكتم أنفاسَ النطق بغصَّةِ شجنٍ تحرقُ الذاتَ بكفِّ الرَّهبة، فتنفر الدموعُ من العيونِ وتبحر بالألمِ العميقِ، فيُطرَب الكونُ بهديلِ حمامٍ يسكبُ حزنُهُ العبيرَ في آفاقِ الإحساسِ، وتبتسمُ الشَّمسُ بعدَ احتجابٍ بحضنِ السهد والنطق يشتدُّ اندلاعاً بأغنياتٍ تتحدى الرَّهبةَ، فتقلق عينَ الرَّصدِ بوهج الجرحِ واحتراقِ الدماءِ . أتراها ألقتْ الشمس لي ألقَ الوهجِ، وغابت خلفَ الأفقِ؟ ربما صدق ظني وربما خاب.

دخلت بيت الطالبات، وأول شيء قمت به هو البحث عمن يدافع عني في هذه القضية إن أنا سلَّمتُ نفسي للعدالة، فهل أجد عندكم محاميًا بارعًا يقوم بهذه المهمة؟.

 

بقلم

زاهية بنت البحر

 

إلى اللقاء في الجزء الثاني بإذن الله

الحقوق محفوظة لزاهية بنت البحر

مريم يمق