عدة أمتار قطعتها درة باتجاه عادل ومن يكلمهم من الشبان.. رأتهم كالورود المتفتحة.. بعضهم مازال أمردا.. انهالت على رأسها أفكار شتى من كل صوب.. تذكرت أمها وهي تودع أخاها الأصغرعدنان إلى مثواه الأخير.. كان الفراق مرا.. حارقا.. توفي شابا في الخامسة عشرة من العمرعندما سقطت فوق رأسه عتبة باب الدار وهو يدخل إلى البيت.. كان حادثا مؤلما أودى بحياة والدتها بعده بزمن قصير.
خلال لحظات معدودة استعادت درة زمن الحادثة وكيفية وقوعها بكل تفاصيلها حتى الصغيرة منها، إنها ذاكرة الحزن التي تتكمش بالنفس والقلب والروح حتى النهاية.. كان عدنان عائدا من عرس أحد شبان الحارة.. الجميع كانوا بفرح.. الطبول تقرع، والزغاريد تعلو .. الأطفال والشبان والرجال كلهم يرقصون ويغنون.. انتهى العرس.. عاد الرجال إلى بيوتهم بعد أن أوصلوا العريس إلى دارأهل العروس ليصطحبها إلى بيتها الجديد..
كيف سقطت عتبة الباب فوق رأس عدنان لا أحد يعرف.. العتبة كانت حجرا كبيرا.. ثقيل الوزن أنهت حياته خلال لحظات محوِّلة فرح الجزيرة إلى بكاء وعويل.. مات عدنان تاركا في قلب أحبته جرحا لم يشفه مرور الزمن وتقادم الحدث.
لله در هؤلاء الأقمار وهم يقفون مع عادل بوجوه جمَّرها البرد بحرارة الشباب.. لا لن تسمح لهم بركوب الزورق مهما كانت الأسباب.. حياتهم أهم من الجميع.. لن تثكل أمهاتهم بهم.. فإن كان ولابد من مساعدة فلينقلوا سراب إلى الزورق وليرجعوا إلى أهاليهم فليس لهم في الأمر ناقة ولا جمل.
توقفت مكانها.. التفتت إلى الوراء.. رأت لمى تقف خلفها دون حراك.. اقتربت منها.. لمست يديها.. وجدتهما باردتين والزرقة تصبغ شفتيها.. أمسكت بها، وراحت تدعك بكفيها كفَيْ الفتاة لتدفئهما، ثم مشت بها مسرعة إلى مكان لا تهطل فوقه الأمطار.
غادرت حسيبة بيتها وهي تحمل بكلتا يديها خيمة الساهري الثقيلة لعدم وجود من يحملها معها، فالتقت بأم عادل وهي تطلب من لمى العودة إلى البيت خشية أن تصاب بالمرض بتأثير البرد الشديد. رفضت لمى بشدة وصممت على البقاء معهم إلى أن يبحر الزورق بسراب، فاستحلفتها العجوز بالله أن تلبي طلبها بالذهاب، فانصاعت مرغمة وغادرت المكان.
سؤال غريب خطر في بال درة، ترى لو كان النبل إنسانا كيف سيكون تجسده؟ أتراه يشبه البشر؟ ابتسمت وهي تجيب عن سؤالها الخفي:
– النبل كلمة من ثلاثة أحرف، لكنها بوسع الفكر والإحساس والرؤى روعة وجمالا، هو خلة نادرة قل من حملت نفوسهم بها، وأنجبت حسن أعمالٍ، اطمئني يادرة لن يكون النبل على شكل البشر ، ولكن ماأنبل لمى وحسيبة يادرة، ماأنبلهما!!!
ما الذي يتفتح هذا الصباح في أكمام نفس درة؟ من المفروض أن تلد اليوم سراب هاشم، الجميع بانتظاره، ولكن أم عادل العجوز وجدت نفسها دون سابق إنذار تلد أمورا كثيرة لم تخطر لها في بال ربما كانت حامل بها منذ زمن دون أن تدري، فاندلقت من بياض نفسها الشفيفة دفعة واحدة في وقت قصير طال مخاضه عمرا بحاله مرت بها سنونه عجافا حبيسة الألم والحرمان.
بقلم
زاهية بنت البحر