أتراه ودَّع جرحه بقطرة بلسم في بحر ألم؟ أم مازال الجرح مفتوحا بتمرد وحشي يريه خثرة دم صغيرة طافية فيظنها غطاءً بوسع ثغر الجرح؟
تجاهَل الحقيقة بامتلاك مفتاح الأمل.. الزورق الآن على أهبة الاستعداد وهو في طريقه لنقل سراب إليه.. سيحملها على أكف حنانه.. يغطيها برموش وفائه.. اقترب من البيت لكنه يحس بأنه مازال بعيدا عنه.. بعيدا.. يركض والآمال تركض معه.. يريد قطافها قبل الوصول إليها.. سيجمعها كلها في طاقة ورد بيضاء يقدمها لحبيبته عند ما يراها.
في حيرة من أمرها كانت وجيهة تدخل وتخرج من غرفة أم هاشم والدموع تلوب في عينيها، فلا هي قادرة على إطلاقها خشية أن تراها سراب، فتزداد خوفا على ألم، ولاهي قادرة على كبح جماحها الثائر فتحرقها، وأحداقُها بها تغلي.
كانت تحس بقلبها يذبح كلما سمعت أنين سراب واستغاثتها بربها، فترفع يديها إلى السماء وتلهج بالدعاء لها تارة بصمت، وتارة بصوت تسمعه النسوة فيؤمِّنَّ على دعائها برجاء وانكسار.
بارتباك راحت تصول وتجول في البيت، ومما زاد الطين بللا تلك الاتصالات الهاتفية الكثيرة التي تلقتها من زوجها وأولادها مما سبب لها ألما في رأسها وحيرة في أمرها، فكانت ترجوهم أن يرحموها، فالوضع في بيت أمها مأساوي، وطلبت منهم ألا يتصلوا بها ثانية إلا لضرورة.
في بوتقة قلقلها تمنت أن يأتي الغد بوجهٍ باسمٍ، وأن يصبح كل ما مرَّ بهم في تلك الليلة مجرد ذكريات للتندر بها بعد أن تمطر غمامة خوفهم خيرا فوق قلوبهم المتلهفة لفرجٍ قريب.
هي تحب سراب رغم الغيرة التي تنهش صدرها أحيانا، ليست غيرتها كسبا حراما بل هي مشروعة على حبٍّ ولد معها وتريده أن يرافقها مدى الحياة.. لا تحب أن يشاركها به أحد أيًا كان، لكن سراب اليوم تستأثر بحب أمها وأخيها وهما أهلها هي.. تحبهما أكثر ربما من أولادها وزوجها.. تبخسها حقها بالدلال والحبِّ الكبير.. لم تعد هي وأولادها محط اهتمامهم وانشغالهم بها كما كانوا قبل زواج عادل.. كرهت هذا التحول الكبيرعنها باتجاه زوجة أخيها، وبخسها حقها بما كان لها ملكا كما تعتقد.. فسلب الملك عنوة من صاحبه هو سلب الرضا من نبض القلب، وتأجج الثورة لاسترجاعه.
لم تعد وجيهة الليلة كما كانت قبل غروب الشمس.. تبدلت أحاسيسها تجاه سراب التي لم يعد لها حول ولا قوة، فأحست بالشفقة عليها، والكثير من المودة.. تمنت أن تقول لها سامحيني، ولكن ظل لنفسها حظ من الكِبر، فامتنعت..
دخل عادل بيته.. نادى أمه ووجيهة:
– جَهِّزْنَ سراب سنطلع بها الآن إلى البرِّ لتلد في المستشفى.
خلال لحظات تحول البيت إلى خلية نحل.. ذابت ثلوج الرعب التي شلت حركاتهن، ودبت الحياة في جميع من فيه بعد مواتٍ اضطراري بيأس مقيت.. بروعة الخبر الذي جاء به عادل انزاحت صخرة ضخمة كانت تجثم فوق صدورهن، فغرَّدت الرُّوح فوق أفنان التفاني ..
أمسك بها مبشرا..
– الزورق بانتظارك..
كانت تئن بعينين نصف مفتوحتين، لم تبدِ اهتماما بما سمعت وكأنها في عالم آخر وهي تردد بأنين :
– اليوم فرحة.. فرحة.. فرحة.
مسح بيده فوق جبينها.. نظرت إليه بخمول ملؤه الاعتذار.. أمسكت بيده.. قربتها من فمها المرتجف.. قبلتها.. طلبت منه السماح.. ضمها إلى صدره وابتسامة مضطربة ترافق كلماته:
– أجل اليوم فرحة.. ستكونين بخير.. لا تضعفي.. قولي الله..
– الله..الله.. الله..
يداها ترتجفان.. تنزفان عرقا رغم برودة الطقس.. أسبلت جفنيها بصمت.. أحس بها تتخبط في الظلام.. دارت به الدنيا.. نادى أمه أن تسرع فالوقت يمر خطفا.. يريد أن يسبقه.. أن يقطعه قبل أن يستفرد بهم.
بقلم
زاهية بنت البحر