في ساعة متأخرة من الليل نامت سراب بعد طول أنين.. كانت والدتها بالقرب منها تشرف على حالتها، فلم تجد جديدا يستوجب استدعاء القابلة.. حاولت انتهاز فرصة إغفاءتها لتنام قليلا لكن الكرى جافى عينيها، فخرجت من الغرفة لاستنشاق الهواء البارد لإحساسها بشيء من الاختناق وهي تراها بحالة يصعب على قلب الأم تحملها ولو كانت ستلد ملكا.
لم يعد يشغل بال علية هاشم ولا درة.. المهم عندها الآن الاطمئنان على فلذة كبدها.. انهمار الأمطار فوق رأسها وهي تقطع الجزء المكشوف من فسحة الدار إلى غرفة المعيشة اختلطت عذوبة مائه بملوحة ماء عينيها.. فوجئت بوجود أم عادل في الغرفة وهي تقرأ في القرآن الكريم..
جلست بالقرب منها تسبح الله، بينما كان عادل ينام في سرير أمه تاركا غرفته لحماته.
وضعت درة القرآن في كيس من القماش الأخضر مطرز بخيوط ذهبية.. علقته فوق الحائط الغربي بعد أن قبلته، ودعت الله أن يتم الولادة على خير.
ذهبت إلى المطبخ.. عادت تحمل صينية نحاسية قديمة تلمع كالذهب وفوقها فنجانان من القهوة وكأس ماء..
وهما تحتسيان القهوة دارت بينهما أحاديث شتى، أخبرت درة خلالها علية بقصة رزق وسعفان، وخبر اللجنة النسائية لمكافحة التدخين بين النسوة، ومشروع العمل الإنساني لمساعدة المحتاجات من الأرامل والمساكين. أحست برغبة علية في الانتساب لهذه اللجنة فوعدتها خيرا، وسرها جدا ما سمعته منها في قدرتها على المساهمة معهن، ودعوة الكثيرات للمشاركة فيما يخدم الجزيرة.
وهما تتحدثان سمعتا صوت سقوط شيء ما في بهو الدار.. أسرعتا لمعرفة ماحدث في الخارج.. لحق بهما عادل الذي هبَّ من فراشه خائفا.. ألف هاجس هاجم رؤوسهم.. استعاذوا بالله من ساعة الغفلة.. أضاءوا النور .. شاهدوا مفاجأة لم تكن بالحسبان.
حمدتا الله وهما تنسحبان من الدار وخشب النافذة التي تطل على البحر مشلوح فوق الأرض بفعل شدة الريح.
رفعه عادل، ووضعه في ركن جانبي.. دخل غرفته للاطمئنان على سراب.. وجدها نائمة ويدها فوق بطنها.. أغلق الباب وراءه وعاد إلى غرفة أمه لمتابعة النوم قبل أن يحين موعد صلاة الفجر.
عندما هدأت أعصابهما راحتا تتحدثان عن الطقس، وعن هبوب العواصف في مثل هذه الأيام حيث (نوَّة الحسون)، وما تلاقي بها الجزيرة من كوارث.. فالريح والأمواج تهوج بشكل مفاجئ تضرب كل ماتصادفه أمامها من بشر وجماد. تحدثتا عن السفن التي غرقت.. والفلايك التي تحطمت وعن الأرواح التي زهقت.. نوة الحسون السنوية تدع بانسحابها الدموع في العيون حارقة بفقد المال والعيال .
تذكرتا ماحدث في إحدى السنوات الماضية عندما هاج البحر على الجزيرة، وكيف اخترق الصخور التي تقف بوجهه سدا منيعا.. دحرجها فوق الشط الصخري غرب الجزيرة ورمى ببعضها عن الأسوار العالية رغم أوزانها الهائلة فجرفتها الأمواج إلى قرب البيوت المطلة على البحر.. تخطاها بجنون إلى المقبرة المجاورة، حفر التربة.. هجم على القبور، وخطف جثث الموتى منها ما فني منها، وما لم يفنَ بعد.. لم يترك سوى قبر الشيخ عسيلي رحمه الله.. لم يصبه بأذى. دهش الناس عندما رأوا بأم أعينهم ماحدث من عجب، فكبروا، وهللوا، وترحموا على شيخ جزيرتهم الجليل.
بقلم
زاهية بنت البحر