جثَّة الغريب حرَّكت الآلام المُسَكَّنة بمشاغل الزَّمن.. هيَّجت الشجون الدَّفينة في الصدور، فتمرَّدت على سجَّانيها وتفجَّرت براكين دمع غسلت بها النسوة قبور الأحبَّة أباً.. أخاً.. زوجاً وولداً، وأمَّا الذين لم يؤتَ بجثثهم إلى الجزيرة فقد زار ذووهم قبور الغرباء ووضعوا فوقها الرياحين وقرأوا لأرواحهم القرآن.
استطاعت هذه الجثَّة المنتفخة أن تفجِّر طاقات إبداعية في رواية القصص المحزنة عن أبطال من أهل الجزيرة غادروها وهم يبتسمون، في جيوب قلوبهم آمال وأحلام كثيرة تترنم ابتهاجا بغدٍ مشرق، وعادوا إليها في توابيت مغلقة لم يسمح لأهلهم برؤيتهم فيها ولو للحظات، أو من لم يعودوا كالغرباء الذين يرقدون في جزيرتهم بسلام، بينما قلوب أحبتهم في حزن وعذاب مرير، بعضهم ترك زوجته في شهرها الأول من الحمل ولم يعد ليرى فلذة كبده، ولا تمتع طفله بنداء بابا.
ومنهم من ذهب للعلم فقتل قبل أن يعود حاملا معه شهادات عالية لخدمة وطنه، صُفِّيَ لرفضه العمل في دول الأعداء.
وكان لأحمد صديق عادل نصيب من أحاديث الناس لقرب عهد رحيله، فبكته أمه وخطيبته بِحَرِّ الدموع.
قالت سراب بعد سماعها بعض هذه القصص: عندما يصبح لي طفل، ويكبر لن أرسله للدراسة هناك، أريد لابني الحياة والسعادة في وطنه أيا كانت دراسته أو عمله.
في أثناء عاصفة الذكريات التي هبَّت على الجزيرة بوصول الغريق إليها، طلب عادل من أمه وزوجته زيارة أم صديقه أحمد وخطيبته فقد سمع بأن جراحهما قد نكأت عند سماعهما نبأ الغريق وما قيل فيه.
حاولت أم عادل تسكين حزنهما بذكر قصص كثيرة عن الصبر الذي به دواء القلوب، والثواب من الله الذي يوفي الصابرين أجورهم بغير حساب.
نضخت العيون الدموع بصمت، وأنات خرجت من صدور أشعلَ الحزن حشاشتها، فالتهبت بها المشاعر طالبة من الله الرحمة للراحل والصبر والسلوان لأهله من بعده.
– ليس الموت حدثًا عابرًا ويمضي يا ابنتي، بل هو دائم الوقوع بين الناس، سيرحل الإنسان عن هذه الدنيا، ولكن لا يدري متى ولا أين ولا كيف، ولا عبرة في التقدم بالسن أو الشباب، فهو لا يفرق بين صغير وكبير.
وتمر الأيام يطويها الزمن في سجله يوماً بعد يوم ويلقي بها في ملَّفات العمر المهملة، يثور خلالها البحر ويهدأ.. يثور ويهدأ، ويعلو بطن سراب ثم يبدأ بالهبوط، تحدد القابلة القانونية التي تقيم في الجزيرة موعد الولادة التي ستتم في البيت لعدم وجود مستشفى لأجل هذا الغرض.
لاشيء يستوجب القلق هكذا قالت القابلة.
أم عادل وابنها وكنتها هم الآن على شوق لإشراق الوعد.. ينسجونه من ضياء الحلم.. يخبِّئونه في العيون ويطبقون عليه الجفون.. يرعونه بالأماني، ويسقونه بالدموع عندما يحس عطشًا، ويظلون يرتقبون ولادته في فجر يوم يحمل إليهم تباشير الهناء. يااااه ما أروعه من صباح ذاك الذي يشتاقونه بكل عواطفهم..بكل أمانيهم.. بكل أفراح الصغار.. بعبير الزهور.. بضياء الشمس، وفوق أهداب القمر..
بقلم
زاهية بنت البحر