ابتسامة درة الليلة في وجه سراب لم تكن كما عهدتها منها سابقا، بدت العجوز أكبر سنا من عمرها الحقيقي، كانت كئيبة، حزينة، قلقة، وعيناها تنظران إلى سراب تسألانها بصمت عما أرَّقها حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل.
أومت لها برأسها أن اقتربي.. لبت نداء إيماءتها.. جلست بالقرب منها على الديوان والصمت ثالثهما.
تابعت درة ارتشاف اليانسون الساخن وسراب مطرقة رأسها .. نظرت إليها بإشفاق.. سألتها درة:
– ماالذي أرقك .
– الذي أرقك ياامرأة عمي..
– تناولي كأسا من اليانسون علك تنعسين.
– لماذا يقتل الناس بعضهم بعضا ياامرأة عمي؟
– ليس الامر جديدا، القتل ياابنتي وجد مع الإنسان منذ عهد أبينا آدم وأنت أعلم بذلك مني، أم نسيت قصة قابيل وهابيل؟
– لم أنسَ ذلك، ولكن حتى مَتى سيستمر القتل بين الناس؟
– إلى أن يرث الله الأرض، ويوم القيامة يُحاسب كل نفس بما كسبت، فللجنة ياابنتي أهلها وللنار أهلها.
– مسكين هذا الغريق، كانت له أحلام ركب البحر معرضا نفسه للخطر كي يحققها.
– كل إنسان له أحلام ياسراب كبرت أم صغرت، بعضهم يحققها وبعضهم يموت قبل أن يصل إليها.
– شيء محزن ألا يعيش أحلامه على أرض الواقع، ربما كانت جميلة جاهد من أجلها كثيرا.
– دائما ياابنتي يسرح بنا الخيال في عالم الأحلام كبارا وصغارا، نراها جميلة، براقة، تسحرنا .. نحار أيها نختار وكأننا في حديقة ملئت بأشجار وأزاهير خلابة.. نقطع أشواطا من العمر قبل أن نقطف منها شيئًا، وعندما نظفر بشيء منها نجد بساطَ العمر قد سحب منا.
– أجل هذا يحصل كثيرا وقد سمعت قصصا أبطالها عاشوا وماتوا دون أن يقطفوا حلما ما.
– كعمك أبي عادل فقط خطف منا خطفا.
– رحمه الله ، أحس أحيانا بأن الحياة كلها وهم كما قلت لك ذات حديث بيننا.. أين هو الآن هذا الغريق من أهله، أحقا كان موجودا بينهم والآن هو تحت التراب في جزيرة نائية لم يخطر في باله أو بال أهله أو حتى في بال أهل الجزيرة أن يرقد فيها إلى الأبد؟!!
– هذا قضاؤه وقدره وقد قال الله عزَّ وجل(وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت.)
– صدق الله العظيم.. أحس ياامرأة عمي بالعجز والضعف والخوف معا.
– كلنا نشعر بهذا ولكن من الحكمة ياابنتي ألا تستسلمي للعجز عندما تحسين به، بل كوني حكيمة، حليمة بنفسك لتري بعين البصيرة مالا يراه الآخرون. انهضي الآن وأحضري كأسا من مغلي اليانسون، فما زال في الدّلة شيء منه.
– وأنت ألن تنامي؟
– اقترب السَّحر، سأقوم للصلاة.
– أيقظينا بعد الفجر إن تأخرنا بالنوم.
وقفت أم عادل خاشعة في صلاة الليل، سلمت فؤادها وأحاسيسها لربها ناسية الدنيا ومآسيها، وعيناها تسكبان الدمع طاهرا عَطِرَا في لحظة القرب من الربِّ العظيم.
العمر غريب بكل مافيه من أحداث ومشاعر، المحظوظ فقط من يقبض على لحظة هناء تملي عليه خفقاتِ قلبٍ تهدي حبيبتيه بعض زخات مطرٍ تطهره من لواصق لا تجلب له مسعدًا في قادم لامفرَّ منه، قد تسكن الأنسام أجسادًا، ولكن قد يظل الاتصال بينهما مفقودا إلى أن يشاء الله، فيكرم إحداها بلحظة وصلٍ يحملها الجسد ما بقيت الروح فيه سعادة تضيء حياته حتى الغروب بشعورٍ لايعرف ماهيته، هكذا كانت تلك اللحظة.
الانتصار على النفس بانسكاب دمعة شكر لخالقها، يجدِّدُ اليقين، ويعود بالنفس ألى النَّقاء، فتغسل بتلك الدمعة ماعلق فيها من قاطعات الصِّلة بالأصل، فيشرق بومضة الصَّحو ماغم بتراكم القشور وتضاء لكينونتها مسالك الهديِ بالسّلام.
بقلم
زاهية بنت البحر