ربما كانت السَّاعة الواحدة ليلاً عندمااستيقظت العجوز فزعة، تتقاذفها الأوهام، هبَّت من فراشها، أشعلت نور المصباحالكهربائي، وخرجت من غرفتها إلى فسحة الدَّار. أحست برهبة، اقشعر بدنها وهي تسمعصوت الرِّيح كعواء الذِّئاب يزداد حدَّة باشتداد اهتزاز أغصان الأشجار التي تغطيفناء الدَّار. تفقَّدت عيناها أرجاء المكان، فرأت نوراً ينبعث من حمَّام البيتفي الخارج، وسمعت صوت حركة هناك، اقتربت من مصدر النُّور والصَّوت على حذر، من تراه هنا؟ الابواب والنوافذ مقفلة.. أيكون حرامي استغل غياب عادل ونزل البيت للسرقة؟
سمعت أنين سراب،خافت أكثر، ترى هل أصابها مكروه، أسرعت باتجاه الحمام، وعندما وقفت ببابه، فوجئت بسراب وهي تتقيَّأ فوق المغسلة،ازداد خوفها حدة، سألتها: مابك ياابنتي؟ نظرت سراب إليها بتعب وقالت: أشعر بالغثيانودواراً مزعجاً يا امرأة عمِّي. قالت العجوز:عودي إلى غرفتك، تعالي، هاتي يدك، سأستدعي طبيبالجزيرة لمعاينتك. لا أريد طبيباً، إنَّني (وأشارت إلى بطنها( شهقت أم عادلشهقة كادت تودي بحياتها، سألتها: هل أنت حامل؟ هزَّت سراب رأسها بالإيجاب: منذمدة قريبة. فقالت العجوز بعتاب يمتزج بدمع الفرح: لِمَ لمْ تخبريني ألا أستحقمنك هذه الفرحة؟ أجابتها بخجل: بلى والله تستحقّيِنها وزيادة، لكنني كنت أخشىألا يكون الحمل حقيقيا. رفعت أم عادل يديها نحو السماء تقدم قربان الشكر دمعاً: الحمد لك يارب.. كم أنت كريم. سأزغرد. استوقفتها سراب ممسكة بيدها: لا تفعلي،جعلتك الفرحة تنسين أننا في وقت متأخر من الليل. فقالت أم عادل: وليكن لم يعدللوقت عندي حساب. قالت سراب: حسنا فلننتظر حتى تشرق الشمس، أليس الغد لناظرهقريبا؟ أجابت العجوزهذه المرة بحكمة وهدوء: بلى فالعمر لحظة.
العمر لحظة، ولكنكم تضم هذه اللحظة من حوادث فرح وحزن ومفاجآتٍ يرسمها القدر بعيداً عن إرادةالبشر؟ قضية أم عادل كانت حلماً حاربت من أجله بسلاح المنطق والأخذ بالأسباب،فهي تريد حفيداً يحمل اسم زوجها هاشم، فما انتصرت بمنطقها، وما تحقَّقت قضيَّتهاإلا بإرادة الله، فحدثت المعجزة، وتهاوى المنطق البشري أمام القدرةالإلهيَّة. رائع هذا الصباح أحست درَّة بفتوة تنمو في جسدها المثقل بسنواتالتعب، المحني بهموم العيش، المفرغ من بريق الوعد. العمر لحظة.. قطع قطار زمنهاخلالها محطات كثيرة حاولت أن تنسجم معها بمنطق الحكمة، تحَوِّلُ الحزن فيها فرحاً،واليأس أملاً، ولكن بقناعة المعدم. العمرلحظة خلعت القناع، ضمها الأمل إلىكتائبه الباسمة الزاهية بالألوان، ألبسها الربيع ثوباً، والشمس إشراقاً،والتفاؤل وشاحاً. مساحة الأمل لا تحصرها حدود، فسيحة كالأحلام، شاهقة كالمستحيل،بديعة كالولادة. حملتها فرحتها الوليدة إلى عوالم براقة ساحرة.. حنونة.. فوضويَّةالرُّؤى.. سمعت فيها صوت هاشم يناديها.. رأته يلعب معها.. تحضنه.. تطعمه..تقبِّله، يهرب منها.. أحبت البداية وكرهت النهاية، وهنت ركبتاها.. شهقت.. أسرعتتمسك به لا تريده أن يهرب منها أبداً.. أبداَ.. خافت عليه في الحلم.. نعم، ولكنَّهاستخاف عليه في الحقيقة أكثر.
لا لن تخبر أحداً بحمل سراب خشية الحسد، فالعيونفارغة لا يملأها إلا حفنة من تراب، وهي لم تصدق أن سراب ستحمل يومًا فلن تتركهاصيدا للعيون الفارغة. الحرص هنا واجب، وسيكون مسلكها، لن تخبر أحداً حتى عادل لنتبعث إليه بالبشرى كي لا يترك السفينة، ويعود، فيخسر المال الذي سيشتري به البيتالجديد، تريد أن تطمئن على سكنه قبل موتها. تغير المنطق أم هي التي تغيرت؟ فوضىالفرح، فوضى الأحاسيس المتمرِّدة، فوضى اللحظة، ترى من تغير؟ هي تعرف فقط أنَّهايجب أن تكون حريصة في المحافظة على هاشم وليكن ما يكون. وافقت سراب أمَّ عادلالرأي بشأن إخفاء خبر الحمل. عجوز قدَّرت وشابة تفهَّمت فكانالاتِّفاق. إتِّفاق سرِّيٌّ أبرم بين الخريف والربيع فأنجز خيراً. إنجاز مهملن يعلم به سوى عائلة سراب، وأخت عادل وجيهة، وبذلك يبقى الخبر طيَّالكتمان. أسرة سراب لا تحب الثرثرة.
أب صارم حازم لا يجامل أحداً، لكنَّه يحسن التَّدبير، هادئ الأعصابغالباً، يشكو من ارتفاعٍ في ضغط الدم، لم يرزق ذكوراً. علية أم سراب سيدة فيالخمسين من العمر، عاطفية، من أصل تركي، أنهت دراستها الابتدائية في الجزيرة،تزوَّجت في الرابعة عشرة من عمرها، وأنجبت خمس بنات أصغرهنَّ سراب. حدَّثت ْعليةزوجها بشأن إخفاء خبر حمل سراب، اتَّهم الجميع بالهذيان، وعقم التفكير، وأعلنبراءته مما يعملن. وبعد كثير من المناقشة والمجادلة، وافقهنَّ على مضض من أجلعادل، وهدفه المادي الذي سافر في البحر من أجله، وليس من أجل الحسد، وقلة عقلالنسوان. قال لزوجته: عجيب أمر النساء والله، كنتنَّ تلهثن وراء الحمل، والآنتلهثن من أجل ستره! سألته علية: ساعدنا بطريقة تمكننا من ستر الحمل دون قيلوقال؟ فقال متبرمًا: حسبي الله نعم الوكيل من كيد النساء، ومن أفكارهنَّالغريبة. فقالت: هذا الأمر لن نختلف فيه أبداً، ولكن أنقذنا مما نحن فيه منحيرة؟ قال بعد تردُّد: لا حول ولا قوة إلا بالله ، اسمعي جيدا إن كنت تصرين علىرأيك في كتم الخبر. قالت بلهفة: قل يارجل وأرحني أراحك الله من أعدائك؟ قال: في الأشهر الأولى لا توجد مشكلة لأن الحمل يحتاج لوقت كي يبدو للعيان، وماتبقى منأشهره تجلس سراب في البيت، ولا تقابل أحداً حتَّى يقضي الله أمراً كانمفعولا. سألته: ولكن قد تطول مدة احتجابها عن الناس، فماذا سنقول لهم إن همسألوا عنها؟ أجاب: لن تعدمن حجَّة، إن كيدكن عظيم.
الحمد لله .. سراب قد حملت .. ربنا يستر ويكتمل حملها .
صديقتي الزاهية .. سننتظر بشوق الفصل التالي.
أ. فايزة شرف الدين
إعجابإعجاب
الأديبة العزيزة الزاهية
اشكرك على اتاحة الفرصة لى لخرج قليلا عن الجو المشحون بالتوتر من خلال قراءة الخمسة فصول لروايتك
حاجة غريبة فعلا قرارهم بالتستر
أقول : ربنا يجيب العواقب سلمية ولا يتهمونها بأشياء غبية من سوء تصرفهم
ما زلت متوجسه من ” ان كيدهن عظيم ”
التشويق الى الآن فى بداية تطوره وسأنتظر مع اختى فائزة لأرى ما سيحدث هنا
لمن اراد متابعة الخمس حلقات – اضغط هنا
http://files.filefront.com/157615751…/fileinfo.html
د. إيمان حمد الحسيني
إعجابإعجاب
:
عبارات جميلة:
* عجوز قدَّرت وشابة تفهَّمت فكان الإتِّفاق.
* إتِّفاق سرِّيٌّ أبرم بين الخريف والربيع فأنجز خيراً.
* عجيب أمر النساء والله، كنتنَّ تلهثن وراء الحمل، والآن تلهثن من أجل ستره!
زاهيتنا الغالية..
كدت أن أتحفك بحكاية شعبية ظريفة عنوانها: (إن كيدهن عظيم حتى وهن ميتات), لكن ربك ستر فسكتت شهرزاد :p
متابعة إن شاء الله
حفظك ربي ورعاك
أ. فاطمة بنت السراة
إعجابإعجاب
العمر لحظة…
تفجرت هنا بالأمل، والحب، وكل المشاعر النبيلة…
وحتى “كيدهن عظيم” جاءت هنا، في هذا السرد المتألق، خفيفة على النفس…
هي الدنيا: إذا أغلقت في وجهنا بابا.. وجب أن نفتح في ظهرها أبوابا…
” ”
بالقراءة لك، أختي الفاضلة زاهية.. أخرج بثلاث أشياء، على الأقل:
المتعة، والفائدة، والتعلم…
أخوك:د. عبد العزيز غوردو
إعجابإعجاب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت هذا الجزء فشدني كثيرا لقراءة الأجزاء الأخرى
مبدعه أختي زاهية
دام يراعك مدرارا
أ.هدى علي عبد الله
إعجابإعجاب
أمدًك ِ الله بعونه وبعلمه .. ووهبك ِ من نعماااائه التي لاتعد ولاتحصى
اقرأ باسم ربك الذي خلق .. خلق الانسان من علق .. اقرأ وربك الاكرم .. الذي علًم بالقلم .. علًم الانسان مالم يعلم ,,
العلم نور يازاهية يستضيئ به الانسان لتتفتح امام بصيرته الابواب الموصدة .
من انعم الله عليه بالعلم فقد ورث خيرا كثيرا .
لاشك انك شااااكرة لله وحااااااااااامدة .
تحيااااااااتي .
إعجابإعجاب